كيف نحمي أنفسنا من هذا المرض القاتل، كيف نحمي موظفينا، ساستنا، شبابنا؟، نحن في حال إغفال هذا النوع من الحماية، كمن يسعى للقضاء على نفسه بنفسه، إنها بالنتيجة عملية انتحار ذاتي، تدمير شامل للدولة والمجتمع من خلال تدمير القيم والقواعد الأخلاقية الضابطة، الحلول معروفة...
كثير من المسببات تقف وراء الفساد، من أخطرها مبدأ سياسي شهير ومعروف على نطاق واسع وهو مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وهذا ما قال به ماكيافيلي مؤلف كتاب الأمير الذي ما زال، بعد خمسمائة سنة، يمثل قمة فلسفة الحكم، ويعمل بمثابة دليل عمل لحكام الدول، يطبقونه عملياً وينكرون ذلك علناً، وفي المقدمة أن الغاية تبرر الوسيلة، وهو يقصد أن مصلحة الدولة واستقرار النظام تبرر اللجوء إلى أية وسيلة عملية متاحة تحقق هذا الهدف، ولد ماكيافيلي في فلورنسا، كان مفكرا وفيلسوفا سياسيا إيطاليا إبان عصر النهضة وأصبح الشخصية الرئيسية والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي، والذي أصبحت فيما بعد عصب دراسات العلم السياسي، أشهر كتبه كتاب الأمير، وكان هدف مكيافيلي منه أن يكتب تعليمات للحكام، نُشرَ الكتاب بعد موته، وأيد فيه فكرة أن ما هو مفيد فهو ضروري، وكان ذلك صورة مبكرة للنفعية والواقعية السياسية.
على مستوى الواقع العراقي، صار المبدأ المذكور نافذة متعددة الأبعاد والاستخدامات، بالأخص ما يؤدي منها إلى حومة الفساد الذي يُعدّ بحسب معاجم اللغة في (فسد) ضد صَلُحَ (والفساد) لغة البطلان، فيُقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل، ويأتي التعبير على معانٍ عدة بحسب موقعه، التعريف العام لمفهوم الفساد عربياً بأنه اللهو واللعب وأخذ المال ظلماً من دون وجه حق، ويعرف معجم أوكسفورد الإنكليزي الفساد بأنه "انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة" وقد يعنى الفساد: التلف إذا ارتبط المعنى بسلعة ما وهو لفظ شامل لكافة النواحي السلبية في الحياة، ويصبح الفساد بمفهومه العام هو التغير من الحالة المثالية إلى حالة دون الحالة المثالية، والكمال لله عز وجل، بمعنى التغير للأسوأ، ويكون هنا ضد الإحسان وضد التحول أو التغير إلى الحالة المثالية.
ما هو الترابط بين مبدأ ميكافيلي الشهير وبين الفساد، صحيح هو موجَّه للحكام، ينصحهم بصورة مباشرة بأن الحفاظ على الحكم تبررهُ كل الوسائل، وجعل السلطة هنا غاية وكل الطرق والاستخدامات التي تقود إليها مبررّة، بغض النظر عن شرعيتها، ولكن مع الوقت بدأ هذا المبدأ يتغوَّل ويخرج حتى على الغاية السياسية التي وُضِعَ لها، فانتقل من الاستخدام السياسي إلى الاقتصادي وحتى الاجتماعي والإداري والتعليمي، فصارَ بذلك منهج سلوك يدقّ إسفينه في النسيج المجتمع، وتنتشر عنه قيم خطيرة تحلّ محل القيم الصالحة.
على مستوى الأفراد، انتشرت في المجتمع العراقي ثقافة تبرير الفساد، فالهدف الفردي أيّاً كان نوعه هو الأهم ولا شيء آخر أكثر أهمية وأولوية من الوصول إلى هدف الفرد، وطالما أنه غير خاضع للقيم الضابطة لإيقاع حركة المجتمع فليس هناك أهمية لوسائل الوصول وشرعيتها، فالقيم هنا تُلغى والهدف محدد وواضح، عليك أن تحقق هدفك، ثم بعد ذلك يمكنك أن تبحث الأساليب التي حققت بها هدفك إذا كان هناك حاجة لمعرفة ذلك.
هذه السياسية تذكّرنا بمبادئ تغوَّلت من المبدأ الأم، فمثلا هنالك حركات وأحزاب سياسية حكمت أعضائها بمبدأ (نفّذ ثم ناقش)، أي عليك أن تمضي نحو الهدف بكل الوسائل المتاحة حتى غير المشروع منها، ثم بعد ذلك ناقش خطوات التنفيذ!!، ويذكّر هذا أيضا بالمبدأ الأمريكي العسكري المعروف (أطلِق النار ثم اطرح الأسئلة)، كل هذه السياسات نبعت من المبدأ الأصل، ولكن خطورة ذلك في انتشارها وتحولها إلى ثقافة مجتمعية مقبولة.
إن أسوأ ما يمكن توقعه حين تسود ثقافة التبرير، وتتفوق على ثقافة وقيم الإنصاف، هنا سوف تصنع أبوابا ونوافذ لا حدود لها للفساد، فالسياسي يمكنه وهذا الحال أن يبرر لنفسه التجاوز على أموال الدولة والشعب، والموظف الكبير والصغير سيجد التبريرات اللازمة كي يختلس المال ويقبل الرشوة ويطوّر النظام الإداري البيروقراطي كي يصل إلى ضالته، ولا يسأل أحدا بل لا يسأل حتى نفسهُ هل ما يقوم به مشروعا ومقبولا قانونيا وعرفيا وشرعياً؟.
إن المبدأ النفعي الميكافيلي (الغاية تبرر الوسيلة) لم يقف عند حدود السياسيين والحاكم، ولم يتم تطبيقه في نطاق ضيّق، وقد تفرعت منه مبادئ وأفكار نفعية كثيرة، قد يكون أكثرها انتشارا في السياسة وحتى على مستوى الأفراد الفلسفة البراغماتية التي تبرر السلوك الذي يحمي منفعة الشخص أو الحزب أو حتى الدولة بغض النظر عن القيم الصحيحة!، ولعلَ الأخطر في ذلك حين يصبح الإنسان الفرد، الجماعة، المجتمع، منساقا وراء غايته بكل السبل والوسائل دون أن يضع معايير أخلاقية لتحقيق ذلك، فالأخلاق هنا يتم تجميدها على نحو جزئي أو كلي، والقيم تصبح عبئا يحاول المستفيدون التخلّص منه، بذلك شاع الفساد وانتشر في مساحات كبيرة في المجتمع العراقي وميادين السياسة والإدارة والاقتصاد وغيره.
كيف نحمي أنفسنا من هذا المرض القاتل، كيف نحمي موظفينا، ساستنا، شبابنا؟، نحن في حال إغفال هذا النوع من الحماية، كمن يسعى للقضاء على نفسه بنفسه، إنها بالنتيجة عملية انتحار ذاتي، تدمير شامل للدولة والمجتمع من خلال تدمير القيم والقواعد الأخلاقية الضابطة، الحلول معروفة، والخطط الكفيلة بالمعالجة موجودة، ولكن المشكلة معروفة، وحلولها عبارة عن حزمة متعددة تتوزَّع في اتجاهين:
الأول: الحاجة إلى الصبر والتدرّج في المعالجة، مع أهمية حسم قضية الفساد في دوائر ومؤسسات الدولة بسرعة وقوة أكبر.
الثاني: اعتماد خطة طويلة الأمد، تستهدف الأسرة وأفرادها في الجانب التثقيفي، على أن يتحمل الأب والأم مسؤولية حماية أفراد العائلة من ثقافة (الغاية تبرر الوسيلة)، ومرض الأنوية وتدعيم القيم والأخلاقيات في التعامل مع الأهداف الموضوعة، ولا يصحّ الوقوف عند حدود الأسرة أو الفرد، فالمجتمع كله وبكل طبقاته وشرائحه يوضَع تحت مبضع التطوير الأخلاقي والقيَمي، وتخليصه من ثقافة (الوصول إلى اللغاية بكل الوسائل المقبولة والمرفوضة)، كلا يجب أن تسود وتزدهر معادلة التوافق والموازنة الأخلاقية بين الغايات والوسائل التي تقودنا إليها.
اضف تعليق