q
لماذا تصرّف هكذا مع العراق ولم يجرؤ على فعل ذلك مع روسيا مثلا أو مصر أو حتى حليفته إسرائيل أو السعودية أو لبنان أو أية دولة أخرى، إذا استطعنا أن نجيب بصراحة وشفافية ودقة على هذا السؤال، فإننا نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في معالجة ما يعانيه العراق...

تختلف القيم بين مجموعة بشرية وأخرى، طبقا للثقافة والتقاليد والتاريخ، فما يراه بعضهم عيبا ونقيصة قد يراه آخرون بالضد من ذلك، لكن هنالك مفاهيم ثابتة لا يمكن التلاعب بفحواها، وهناك اتفاق بشري عقلي تفسيري مفهومي على معناها، ومن هذه المفاهيم السيادة التي تعرف بحسب مختصين بأنها (الحق والقوة لهيئة ما لكي تحكم نفسها بنفسها، بدون أي تدخّل من مصادرٍ أو هيئاتٍ خارجيّة، والسيادة في النظريّة السياسيّة، هي مصطلح أساسي يحدّد السلطة العليا على بعض الأنظمة السياسيّة، إنّه مبدأ أساسيّ يستند إلى نموذج ويستفاليان المهيمن على أساس الدولة).

والسيادة الوطنية مفهوم يشير إلى مَنح سيادة مُطلقة للشعب, أي أنّ السلطة بيد المواطنين الذين من شأنهم القيام بجعل الدستور يمنح السلطة لهم بشكل ثابت. فيُصبح الملك مجرد مُمثل أيديولوجي ينهض بالأعباء السياسية, وهو مصطلح ظهر أثناء الثورة الفرنسية عام (1789) حيث تمّ صياغته بهدف سلب السلطة الفردية في اتخاذ القرار من الفرد, وإعادتها للهيئة الوطنية المتمثلة في الشعب. يرتبط مفهوم السيادة الوطنية بشكل رئيسيّ بالمواطن الخاضع لحقوق الإنسان في المساواة في الحقوق مع غيره من أفراد الأمة, وليس المواطن الخاضع والمذعن في الانتماء إلى كيان سياسيّ يُفرض عليه بشكل إلزاميّ. أمّا في النظرية الكلاسيكية فتُفسر السيادة الوطنية على أنها نظام حكم تمثيليّ؛ لأنه لا يمكن للشعب حُكم نفسه بشكل مباشر, كما أنه لا يمكن حتّى تطبيق ذلك في أنظمة الحكم الديمقراطية المباشرة, نظراَ لعَدم القدرة على جمع الأمة كلها على أرض الواقع.

قبل أيام قلائل زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صحبة زوجته العراق بصورة مفاجئة وخفية، ووصل قاعدة عين الأسد الجوية حيث يوجد جنود أمريكيون وقوات قتالية من صنوف مختلفة، وقد حملت الأخبار بأن الزيارة جاءت لمباركة الرئيس جنوده بمناسبة أعياد رأس السنة، ومهما كانت المقاصد من هذه الزيارة (الصاعقة) التي أحدثت لغطا ساخنا، فإن ما يثير فيها الطريقة التي تمت بها، وخرقها للأعراف والتقاليد الدبلوماسية المعروفة، فقد تصرّف تراب مع دولة ذات سيادة واستقلال معترف به أمميا ودوليا، كأنها ضيعة أو ولاية تُضاف إلى الولايات الأمريكية.

هذا السلوك المستهجَن من الرئيس الأمريكي (وهو ليس غريبا عليه)، أثار موجة من الاستغراب ليس في العراق وحده، ولم يكن ساسة العراق وحدهم المعترضون، إنما هنالك أوساط شعبية رفضت طريقة ترامب التي تنم عن عدم احترام، ولكن نحن نرى أن الموضوع الأهم في هذه الزيارة وتصرف ترامب بهذه الطريقة، البحث في الأسباب التي جعلت أكبر مسؤول أمريكي يتصرف مع العراق بلا احترام؟!.

لماذا تصرّف هكذا مع العراق ولم يجرؤ على فعل ذلك مع روسيا مثلا أو مصر أو حتى حليفته إسرائيل أو السعودية أو لبنان أو أية دولة أخرى، إذا استطعنا أن نجيب بصراحة وشفافية ودقة على هذا السؤال، فإننا نكون قد قطعنا شوطا كبيرا في معالجة ما يعانيه العراق في هذه الظروف الحرجة، هناك قول معروف أو حكمة تقول ما نصهُ، أن احترام الآخرين لشخص ما يأتي من احترامه لنفسه، أي أن الإنسان إذا لم يحترم نفسه فعليه أن لا يتوقع من الآخرين احترامه.

وهذا يقودنا إلى المجموعة السياسية التي تدير الشأن السياسي في العراق، مجموعة الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية، هذه المجموعة هل أبدت الاحترام الكافي لنفسها، وهل احترمت بلدها، وهل احترمت شعبها، إذا كانت الإجابة بالإيجاب فإن هناك أدلّة كثيرة تدحض صحة هذا الجواب، ومن أهم الدلائل مؤشرات الفساد التي تعصف بالبلاد منذ عقد ونصف، وحتى الآن، فالفساد الذي ينتشر كالسرطان في جسد البلد، مصدره معروف، إنهم السياسيون، أو المجموعة السياسية التي سبق ذكرها، فكل من شارك في السلطة وفي الأنشطة السياسية وإدارة مؤسسات الدولة منذ 2003 وإلى اليوم مشارك في الفساد سواء بشكل مقصود أو خلافه.

نتيجة هذا الفساد تراجع كل شيء في البلاد، تراجع في السياسة أدى إلى تراجع في الخدمات والصحة والتعليم وفرص العمل والمساواة والعدالة والإنصاف وكل شيء، سببه معروف ونتائجه جلية كل الجلاء، حتى أن الأمم والدول والحكومات الأخرى باتت تنظر للعراق على أنه مثال للفشل والتخلف والفساد، وما نتائج الاستبيانات التي تعلنها منظمات دولية ومحلية عن مرتبة العراق في الفساد عالميا، إلا دليل قاطع على تدّني أوضاعه وتفاقم بؤسه، فمن يا تُرى يقف وراء هذا التدهور الخطير على مدى سنوات متعاقبة قارب الخمسة عشر عاماً؟.

هل هناك نافذة أمل لاستعادة العراق مكانته واحترامه من قبل الآخرين، ترامب وغيره؟، نعم نوافذ الأمل كثيرة متعددة وكبيرة أيضا، ولكن علينا أن نقوم بخطوة مهمة قبل أي شيء آخر، إننا يجب أن نحترم بلدنا العراق أولا، وإذا لا نحترمهُ نحن لن يحترمه الآخرون، تماما مثل الحكمة التي تقول احترم نفسك يحترمك الآخرون، هذا يعني ببساطة أن المجموعة السياسية الحاكمة والناشطة في العراق عليها أن تحترم نفسها وبلدها أولا، حتى يتسنى للآخرين أن يحترموا العراق.

كيف وما هي إجراءات الاحترام التي يجب أن يلتزم بها السياسيون، إنها تتجسَّد بوقف عجلة الفساد، والكف عن النهب والسلب، وإبداء الاحتجاج والنقمة ضد الفساد والفاسدين كما انتفض الساسة ضد اختراق ترامب لسيادة العراق، هذه الغيرة التي اشتعلت فجأة نحتاج مثلها بالضبط من السياسيين ضد عجلة الفساد كي يتم وقفها، وبعدها سوف تُحترَم سيادتنا من قبل الآخرين ترامب أو غيره، أما في حال استمرار انتهاك الساسة العراقيين لحرمة بلدهم وشعبهم وينادون في نفس الوقت بالسيادة، فهذا يشبه عملية ذر الرماد في العيون والضحك على الذقون، احترم نفسك أولا حتى يحترمك الآخرون.

اضف تعليق