يتجادل بعض الناس في هذا الامر: هل الحكومة تبني الدولة الحضارية الحديثة ام الشعب؟، وهذا سؤال لا تتم الاجابة عنه بالتأمل النظري، بل بحاجة الى استقراء التجارب التاريخية التي افضت الى قيام دول حضارية حديثة بدءً من الثورة الانگليزية (١٦٨٨) وربما ليس انتهاءً بالتجربة الناجحة في رواندا...
يتجادل بعض الناس في هذا الامر: هل الحكومة تبني الدولة الحضارية الحديثة ام الشعب؟، وهذا سؤال لا تتم الاجابة عنه بالتأمل النظري، بل بحاجة الى استقراء التجارب التاريخية التي افضت الى قيام دول حضارية حديثة بدءً من الثورة الانگليزية (١٦٨٨) وربما ليس انتهاءً بالتجربة الناجحة في رواندا.
كما ان الجواب لا يكون على طريقة ايهما اسبق البيضة ام الدجاجة، لان الحضارات والدول الحضارية الحديثة لا تنشأ بسبب عامل واحد يسبقها وانما بسبب تراكم وتداخل عوامل كثيرة ولفترة طويلة من الزمن.
واخير فاننا بحاجة الى جواب اولي تعريفي حول طبيعة الدولة الحضارية الحديثة.
وفي الجواب اقول: ان الدولة الحضارية الحديثة هي ثمرة التركيب السليم بين العناصر الخمسة للمركب الحضاري على اساس قيم حضارية منتجة.
تكرر القول بان المركب الحضاري يتألف من خمسة عناصر هي: الانسان والارض والزمن والعلم والعمل، وبالتأمل يتضح ان المركب الحضاري عبارة عن تفاعل بين الانسان والارض من خلال العلم والعمل ضمن زمن معطى وعلى اساس منظومة قيم منتجة.
في بدايات وعي البشرية قامت العلاقة بين الانسان والطبيعة على اساس التجربة والخطأ، وسد الحاجات اليومية للانسان. التجربة ولدت علما، والعلم ادى الى تحسين الممارسة وتحسين الثمرات، والممارسة المستندة الى علم مكتسب ولدت علما جديدا وتحسينا افضل للثمرات. وهكذا تقدم الانسان. في هذه الاثناء كانت القيم الحضارية تتكون تدريجيا بفعل جهود الانبياء والمصلحين والمفكرين والفلاسفة في قائمة طويلة من الاسماء تبدأ بادم ولا تنتهي براولس.
في الكثير من هذه التجارب كانت البداية من فرد، وفي بعضها من مجموعة، واحيانا بفعل فرد حاكم ذي رؤية حضارية. ولهذا قد تتعد البدايات لكنها في نهاية الامر لا تخرج عن "جدحة" وعي لدى فرد او مجموعة افراد سببها ظرف موضوعي سياسي او اجتماعي او اقتصادي الخ. ثم تطورت هذه "الجدحة" حتى اصبح بمقدورها احداث حراك اجتماعي واسع، او "موج" كما يعبر السيد محمد باقر الصدر، يؤدي الى تغيير المجتمع واحداث النقلة التاريخية المؤدية الى اقامة الدولة الحضارية الحديثة.
في حالتنا العراقية الشرط الموضوعي للجدحة التغييرية متوفر وهو عدم رضا الناس عن مستوى حياتهم وتطلعهم الى مستوى افضل. لا يعني هذا ان الناس على درجة واحدة او عالية من الوعي بهذا الامر، ولا يدل على انهم يملكون تصورا جاهزا للبديل الذي يضمن لهم المستوى المطلوب والنوعية المطلوبة من الحياة، ولا يعني انهم يمارسون القيم المنتجة اللازمة للمركب الحضاري. هنا يأتي دور النخبة الواعية من المواطنين الفعالين الذين صاروا يؤمنون باطروحة الدولة الحضارية الحديثة، ويعرفون القيم الحافة بالمركب الحضاري، والقادرين على خلق موج اجتماعي لا يطالب فقط بالتغيير ومحاربة الفساد وتوفير الوظائف، وانما يعمل من اجل اقامة الدولة الحضارية الحديثة بوصفها الاطار المؤسسي والقانوني المحقق لكل هذه المطاليب والاحتياجات.
ان مهمة النخبة الواعية، بعد ان امتلكت اطروحة الدولة الحضارية الحديثة، تتمثل في تثقيف الناس، وخاصة المحتجين منهم، وهم قد يمثلون نواة المواطنة الفعالة، على اطروحة الدولة الحضارية الحديثة، واهم من ذلك تربيتهم على القيم المنتجة الحافة بالمركب الحضاري. واقول القيم المنتجة تمييزا لها عن نوع من "القيم" السائدة والموروثة في مجتمعنا والمعيقة للتحول الحضاري، وخاصة بعض القيم السلبية الموصوفة بالعشائرية او المرتبطة جهلا بالدين او بالعمل او بوضع المرأة في المجتمع. هذه مهمة النخبة الواعية وليست مهمة الحكومات على الاعم الاغلب. النخب الواعية هي التي تبني منظومة القيم المنتجة.
اضف تعليق