من الخطأ أن يتمنى العراقيون الدكتاتورية حتى لو فشلت الديمقراطية العراقية اليوم، لأن الأمل بتصحيحها سيبقى قائما بمقدار ما يبذله المواطن في تحمّل مسؤولياته وإتقان دوره الرقابي والإنتقادي، ومن يرى غير ذلك، نطلب منه أن يعود بذاكرته إلى الوراء، كي يعيش ما عاشه تحت وطأة الدكتاتورية...
الديمقراطية بحسب المنظور الأرسطي هي حكم الشعب لنفسه، ولا شرعية لحاكم أو حكومة إذا لم تأخذ موافقة الشعب على إدارتها للسلطة وما يتبعها من شؤون سياسية وإدارية، فالشعب هو مصدر السلطة الأعلى والأقوى وهو الذي منح الشرعية للحاكم، فيما عدا ذلك، إذا وصل الحاكم فرداً أو حزباً أو حركةً أو زمرةً إلى السلطة من دون موافقة الشعب وتزكيته، فهذا الوصول يأتي عن طرائق استخدام القوة، كالانقلاب العسكري، والاغتيالات، وأساليب القوة المختلفة التي لا تضع حسابا للشرعية.
وهذا سينقلنا إلى نقض الديمقراطية، والمعني به الدكتاتورية، فهي لا تعير أي اهتمام للشرعية، ولا تنظر للشعب على أنه المصدر الوحيد لشرعية السلطة، فالحاكم الفرد، رئيس الحزب، أو الحاكم العسكري، هو من يمنح نفسه حق الجلوس على العرش، مبتدئاً بحملهُ الأول ليس خدمة المجتمع، أو تطوير بناء الدولة في المجالات المختلفة، وإنما يتركّز كل اهتمامه وتصب جميع مشاغله علي كيفيه زيادة الأسوار الشاهقة حول عرشه كي تحميه من السقوط، مع استخدامه لكل أساليب البطش حتى تلك التي قد لا تخطر على بال أحد.
في وصف للكاتب عبد الرحمن منيف لأحد أشكال التعذيب لمعارض سياسي، أن الأجهزة الأمنية التابعة للدكتاتور، وضعت السجين السياسي عاريا في كيس، ثم أحكمت غلق وربط الكيس بحبل محكم بعد أن أدخلت معه مجموعة من القطط الجائعة، هذا الأسلوب التعذيبي المبتكّر قد لا يفكر به حتى الشيطان، لكن الدكتاتور الذي يقضي ساعات وساعات من تفكيره في ابتكار أساليب غير تقليدية لقمع معارضيه، يفكّر بهذا النوع من التعذيب، ويبرع في اكتشاف الكثير منها، بدلا من أن ينشغل ويفكّر في كيفية تطوير حياة الناس وبناء الدولة.
هذه هي الدكتاتورية التي تناقض الديمقراطية، ومن العجَب أن هناك (من العراقيين) مَنْ لا يزال يرغب بعودة الدكتاتورية، رافضا الديمقراطية التي تلكّأت لأسباب وعوامل يعرفها الجميع، فهذا النوع من الناس بسبب الدكتاتورية نفسها كان يحلم بالتغيير من الدكتاتورية إلى الديمقراطية على طريقة العصا السحرية التي تقلب الأمور في ليلة وضحاها، وهذا مخالف لمنطق الأشياء، حتى مواسم السنة الأربعة لا تجري التناقل فيما بينها من موسم إلى آخر إلا بطريقة تدريجية، وهذا درس من الطبيعة للإنسان، بأن العُجالة في التغيير من حال إلى حال لا تجدي نفعاً، طبقاً للقول المعروف (من يصعد سريعاً يسقط سريعا)!.
والآن إذا وجهنا السؤال في العنوان أعلاه، إلى العراقيين ماذا ستكون الإجابة، هل ستقف أنت كعراقي مع الديمقراطية وتصبر عليها كي تنمو بصورة طبيعية مع كل الأضرار التي تلحقها بك بسبب بطئها، أم أنك ستكون قصير الصبر، متعجّل، رافض للديمقراطية الـ بطيئة التحول، لتطالب بصوت عال العودة إلى المربع الأول، ويُقصَد به مربع القمع والتعذيب والبطش والحرمان وما إلى ذلك من مخرجات الدكتاتورية اللئيمة؟، بالطبع لكلِّ سوف يكون جوابه الذي ينطلق من فهمه ووعيه ومدى صبره وشعوره بالمسؤولية تجاه واقع سياسي هو نتاج حتمي للدكتاتورية نفسها.
يذكر العراقيون الحقبة العسكرية أو الجمهورية بأنظمتها وكيف وصلت إلى السلطة، تُرى هل اختارها الشعب برغبته وقناعته ووعيه أم أنها قُرضَتْ عليه بالقوة، الجواب معروف، ومع هذا المنطق السليم للتحليل والاستنتاج، نجد هناك من يبالغ بسوء الديمقراطية ويريدها أن تتغنّج وتبحث عنه بلا مشقّة أو تعب، بل يحلم بكل عجزه ولا مبالاته أن ينال الديمقراطية على طبق من ذهب، وتخليّا عن مسؤولياته في حماية حقوقه كمواطن، وفي دوره الرقابي الناقد الفاعل لكي يتم تصحيح الأمور وإعادتها إلى النصاب الصحيح مع مرور الوقت.
إن الميول التي يبديها البعض للدكتاتورية كبديل عن النظام الديمقراطي المتباطئ، ناتجة عن عدة أسباب، منها وباء الفساد الذي يفتك بالدولة في السياسة والاقتصاد والصحة والتعليم وغيره، كذلك العودة إلى العادات والقيم الرديئة القبلية أو سواها، وبروز ظاهرة الاستئثار بصورة خطيرة، وانتعاش الأنوية والفردية، وتناقص شعور المواطن بأقرانه الآخرين، فكل شخص يريد حاجته ويبحث عنها بغض النظر عن مراعاة حاجات الآخرين، فانتفى الشعور بالمسؤولية إزاء الجار، أو الشريك في العمل أو المقهى أو الحديقة العامة أو السوق أو الشارع، حتى مستخدمي شوارع المرور (عجلات، دراجات نارية وهوائية)، تجاوزوا الحدود فيما يتعلق بمراعاة الآخرين أثناء استخدامهم للطريق الذي يعدّ ملكا للجميع.
هذا دليل على تهرّب الناس من مسؤولياتهم، وهذا يعني أيضا بأن المواطن أحد الأسباب الرئيسة في حدوث التلكّؤ والبطء الديمقراطي، لذلك من الخطأ أن نتصور بأن الديمقراطية ستأتي إلينا طائعة، على العكس من ذلك، لأن الأهداف العظيمة تكون بالغة التكاليف معنويا وماديا، هناك شعوب وأمم لم تتحول إلى الديمقراطية إلا بعد أن اكتوت بنيرانها بحسب قول الزعيم الهندي الخالد (غاندي)، فلا ديمقراطية بلا ثمن، ولا فوز بحياة أفضل بلا تضحيات كبرى، ويكفي أن نطّلع على سيرة الديمقراطيات الناجحة، لكي نطلع على حجم الخسائر المهول الذي طالها بالأنفس والممتلكات حتى طالت الديمقراطية.
من الخطأ أن يتمنى العراقيون الدكتاتورية حتى لو فشلت الديمقراطية العراقية اليوم، لأن الأمل بتصحيحها سيبقى قائما بمقدار ما يبذله المواطن في تحمّل مسؤولياته وإتقان دوره الرقابي والإنتقادي، ومن يرى غير ذلك، نطلب منه أن يعود بذاكرته إلى الوراء، كي يعيش ما عاشه تحت وطأة الدكتاتورية، لكن بالصبر وعدم الركون إلى اليأس أو التكاسل والخمول، والمبادرة إلى التصدي للممارسات الخاطئة كلٌ من مكانه ومركزه، سوف تتشذب الديمقراطية، وتنفض مساوئها شيئا فشيئا، وصولا إلى النظام السليم الذي تنعم به الديمقراطيات الناجحة.
اضف تعليق