q
الفساد يسرح ويمرح في الدوائر الرسمية دون رقيب أو ضوابط محكمة، ودون رادع ذاتي أو خارجي، مع إصابة القوانين بالأخص في التنفيذ، بنوع من التراخي والهجوع المزمن، ما دفع بالمرجعة الدينية إلى تذكير العراقيين بفحوى المبادئ والقيم ومدى حاجة العراقيين لها في مرحلة ضعضعة المبادئ...

منذ خمسة عشر عاما وإدارة العراق بأيدٍ وعقول جديدة، أعلنت انتماءَها إلى ديمقراطية التفكير والسلوك، وهو انتماء جيد من حيث اللفظ، ولكن يلاحظ المتابع السياسي والاجتماعي والأخلاقي، تراجعا في الأداء الديمقراطي الفعلي بالأخص الوظيفي منه، ولوحظ إشارات داحضة عن وجود انحلال أخلاقي في إدارة الدولة، وهو ما قاد إلى ضعضعة الأداء لأسباب أشرتها المرجعية الدينية، بأنها تعود إلى ضعف المبادئ وانعدام القيم أو وضعها على الرَّف.

فقد صرّح ممثل السيد السيستاني عبد المهدي الكربلائي أنه (من الأمور التي أوصلت البلد (العراق) إلى هذا الحال هو غياب مقومات الأداء الوظيفي الناجح)، ومنها وأهمها المبادئ والقيم التي تحدد سلوك الفرد الموظف وغيره، وتوجهه في المسار الصحيح، ونوَّهت المرجعية الدينية في النجف الاشرف، إلى مقومات الأداء الوظيفي الذي يكمن في الشعور بأهمية العمل وقدسيته ودوره الخطير في الارتقاء بالمجتمع، وأوضحت أن "واحداً من الأمور التي أوصلتنا إلى هذا الحال الذي نحن فيه هو غياب مقومات الأداء الوظيفي الناجح في حياتنا خصوصاً في داخل العراق".

ومن الأهمية بمكان أن يُعطى للقانون حجمه وهيبته وأن تُستنبَط التشريعات من الحاجة الفعلية للمجتمع، فالتشريع المناسب هو ما يأتي في الوقت والحاجة المناسبة له، م التشديد على جنبة التطبيق، فما فائدة تشريع قوي ومحبوك لفظيا، لكنه حين التنفيذ يكون عاجزا، أو معجَّزا، ولا يوجد أداء وظيفي ناجح بلا تشريعات ناجعة، ومبادئ تسند الجانب التطبيقي، وبهذا انطلقت رؤية المرجعية من هذا المنظار حين أكدت على أنه من الأمور المهمة ومن المقومات للأداء الوظيفي الناجح، هي "طبيعة القوانين والتشريعات والنظام السياسي للمجتمع"، و"كلما كان النظام السياسي وأفراده يتميزون باحترامهم للأداء الوظيفي ويحرصون على سن التشريعات والقوانين والتعليمات التي تحفظ للعمل والأداء الوظيفي دوره المهم في المجتمع كلما انعكس ذلك على تحسين النشاط الوظيفي نوعاً وكماً".

علماً أن منهج الأداء يرتبط بالفرد وبشكل تصاعدي بالمجتمع، فما يؤمن به الفرد ويطبقه في طرائق وأساليب الأداء، سيكون متماهيا مع منطق الجماعة، ومتناغما مع حركة المجتمع ككل إلا في حالات نادرة تنحو بالفرد إلى الشذوذ عن القاعدة التنفيذية لوجود خلل في المنهج وأسلوب الأداء الوظيفي الناجح المدعوم بمقومات "ترتبط بالفرد العامل نفسه وبأداء المجموعة العاملة سواء أكانت صغيرة أم كبيرة وبأداء الكيان المجتمعي العام" لذلك قال ممثل المرجعية "مما يؤسف له ان مجتمعنا في العراق فرداً وكياناً قد غابت عنه الكثير من المبادئ والقيم الأساسية للنجاح الوظيفي والعملي والأذى أدى إلى هذا التراجع الكبير في مستوى الخدمات العامة بكل عناوينها بل إلى التخلف والتراجع".

وفي عودة إلى ما تعنيه المبادئ لفظاً وتطبيقاً، فقد عرّف بعض علماء الاجتماع بأن المبدأ هو القانون أو القاعدة التي يجب القيام بها، أو عادة هي التي ينبغي على الجميع إتباعها، أو يُستحسَن إتباعها، أو هو نتيجة حتمية لشيء ما، مثل القوانين التي لوحظت في الطبيعة أو الطريقة التي يتم بها بناء نظام معين. مبادئ أي نظام هي ما يُفهم من قبل مستخدميه أنها خصائصه الأساسية، أو تعكس الغرض من تصميمه، أو آلية تشغيله الفعالة التي سيكون من المستحيل تجاهل أي من مبادئها.

وهناك تعريف آخر هو أنَّ المبادئ هي النقطة الأولى التي ينطلق منها تفكير الإنسان في إنجاز شيء ما، ومنها يمكن تحديد ما هو الصواب والخطأ في الأداء، وبالتالي يمكن للإنسان أن يتخذ قراره وفقا لما توصل إليه من نتائج، وطبقا لمدى تمسكه وإيمانه بضرورة تنفيذ ما لا يتعارض مع مبدأه.

توجد معايير يمكنها أن تجعل من الأداء ناجحا وافيا كافيا، وفي حال ضعفها أو تدنّي درجاتها، فإن الانحطاط الوظيفي سيكون عاملا مسرّعا للانحطاط العام، بما في ذلك ضعف الخدمات، وانتشار النهج الأناني على حساب الربحي العام، ومن معايير الأداء، الإنتاجية، وهي قياس مدى الفعالية في إنجاز المهام في أقل وقت وأقل تكلفة، وجودة العمل وهي تعني قياس مدى الالتزام بالمعايير والنتائج المتوقعة التي تتعلق بالوظيفة أو بالأنشطة، ومن تلك المعايير أيضا روح المبادرة، وتعني قياس مدى القدرة على التصرف دون مساعدة وإصرار الآخرين. ثم هنالك معيار العمل بروح الفريق، ويعني القدرة على العمل الجماعي ضمن مجموعة أو فريق لتحقيق نتيجة معينة، ثم السعي لحل المشاكل، وامتلاك القدرة العملية على إيجاد حل للمشاكل والقضايا الصعب.

ولا ريب أن هناك أهدافا موضوعة لتقييم الأداء الوظيفي، حيث تختلف دوافع إجراء تقييم الأداء لدى الموظفين، ومن أبرزها مساعدة الموظفين على تحسين أدائهم، وتحديد الحاجة إلى تدريب الموظفين، أو إعادة التدريب عند الحاجة، وتعزيز العمل الجماعي والتماسك بين أعضاء الفريق، ومساعدة الموظفين على التخطيط لحياتهم المهنية، بالإضافة إلى تحفيزهم وتشجيعهم، ومن ثم الاستفادة من ملاحظات الموظفين لتحسين النشاط التجاري، وتحديد التغييرات اللازمة في مهام إدارة الموارد البشرية، وزيادة رضا المدراء والمشرفين على إنجازات الموارد البشرية، وأخيرا تقديم معلومات لإعادة هيكلة الوظائف.

هذه كلها تكاد تكون غير متوافرة في الأداء الوظيفي للموظف العراقي، أو أنها ضعيفة إلى حد ما، والسبب يرجع إلى عدم التزام المبادئ والقيم الداعمة للسلوك الوظيفي، وهذا ما دفع بالمرجعية الدينية إلى تحديد هذا الخلل الخطير، من خلال منحيين:

المنحى الأول: جمعي كلي يشترك في جميع موظفي الدولة، وهو عبارة عن انتشار رزمة من القيم النفعية التي تسمح للموظف أن يستفيد ماديا بكل الأشكال والطرق، وخطورة هذا السلوك أنه جمعي، وقد يُستثنى عدد نادر من الموظفين، وفي هذه الحالة فإننا سنكون أمام موظف قابل للإفساد وأداء غير (نزيه)، لذلك من الخطوات المهمة والمصيرية أن يتم العمل بحملات في الإطار الفكري والثقافي والديني، للتوجيه بدحر القيم التي تقصي المبادئ وتركنها في خانة التعطيل، فمن لا يعمل بالقيم الصحيحة لا يمكنه الأداء العميق المحاط بالدقة والحرص والجودة، وهذا بالضبط ما ناقشته المرجعية الشريفة في خطبتها الأخيرة، وما على الجميع مسؤولين وموظفين إلى أخذ هذه القضية بمعيار كبير من الجدية، كون العراق دولة وشعبا لا يحتمل المزيد من خلخلة وضعضعة الأداء.

المنحى الثاني: يتجسَّد في وضع المبادئ والقيم التي تحكم بين حسن الأداء وسوئهِ، على رف التحييد، وعدم الفاعلية والتأثير، فالموظف دون قيم يسترشد بها، لن يكون متمكنا في الصراع مع نفسه الميَالة إلى المنافع، هذا هو دور المبادئ والقيم، فهي السد المنيع والحاجز اللدود ضد الانزلاق في منحدرات النفع غير المشروع، وهو ما يمكن أن نستشفّه من مشهدنا الوظيفي، فالفساد يسرح ويمرح في الدوائر الرسمية دون رقيب أو ضوابط محكمة، ودون رادع ذاتي أو خارجي، مع إصابة القوانين بالأخص في التنفيذ، بنوع من التراخي والهجوع المزمن، ما دفع بالمرجعة الدينية إلى تذكير العراقيين بفحوى المبادئ والقيم ومدى حاجة العراقيين لها في مرحلة ضعضعة المبادئ التي نشتبك معها اليوم بضراوة.

اضف تعليق


التعليقات

محمد الدجيلي
الدجيل
تكمن الفائدة من هذا الكلام في التنبيه إلى اندثار القيم وقسم كبير من الأخلاق.. لم يحتوي الموضوع كامل المشكلة، تمنيت أن يُؤتى بأمثلة حيَة عن تدهور الأداء، لكان الكلام ملامسا للواقع بحرارة.. في المجمل هكذا مواضيع تفيدنا كمجتمع يسعى للبناء بعد التهديم...2018-11-11