تناقض عارم يفصل بين مفهوميّ الديمقراطية والدكتاتورية، فالأول يعني حكم الشعب لنفسه بنفسه، وزوال الشرعية عن أية حكومة لا تنبع سلطتها من سلطة الشعب، ليس هذا فحسب، فالديمقراطية ليست نظام حكم فقط، إنها نظام حياة وثقافة أمة، يقابلها في ثقافتنا مفهوم (الاستشارية)...
تناقض عارم يفصل بين مفهوميّ الديمقراطية والدكتاتورية، فالأول يعني حكم الشعب لنفسه بنفسه، وزوال الشرعية عن أية حكومة لا تنبع سلطتها من سلطة الشعب، ليس هذا فحسب، فالديمقراطية ليست نظام حكم فقط، إنها نظام حياة وثقافة أمة، يقابلها في ثقافتنا مفهوم (الاستشارية) الذي ثبّتهُ الإمام السيد محمد الشيرازي في أدبياته الكثيرة وتضمنتها مؤلّفاته التي فاقت الألف، حتى تناولت جميع الميادين التي ترسم الخطوط العريضة والتفصيلية لحياة المسلمين والإنسانية.
أما الدكتاتورية فهي نقيض كلّي لمفهوميّ الديمقراطية والاستشارية، فالديكتاتورية (Dictatura) هي شكل من أشكال الحكم المطلق، حيث تكون سلطات الحكم محصورة في شخص واحد، كالملكية، أو مجموعة معينة كحزب سياسي، أو ديكتاتورية عسكرية، وكلمة ديكتاتورية مشتقة من الفعل اللاتيني (dictātus ديكتاتوس) بمعنى يُملي أو يفرض أو يأمر، وللديكتاتورية أنواع حسب درجة القسوة، فالأنظمة ذات المجتمعات المغلقة لا تسمح لأي أحزاب سياسية ولا أي نوع من المعارضة، وتعمل جاهدة لتنظيم كل مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية وتضع معاييرَ للأخلاق وفق توجهات الحزب أو الفرد الحاكم، وتسمى أنظمة شمولية مثل ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي والفاشية، ويمكن اعتبارها نسخة متطرفة من السلطوية حيث أن الأنظمة السلطوية لا تتحكم في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية للبلد من الناحية النظرية على الأقل، الأنظمة السلطوية بشكل أدق هي الأنظمة التي لا تحكم وفق أيديولوجية سياسية محددة ودرجة الفساد فيها أعلى من تلك الشمولية.
وقد عاش العراقيون تحت ربقة هذا النوع من الأنظمة، وآخرها وأكثرها عمرا وقمعا النظام البعثي المقبور الذي هيمن على العراق والعراقيين ما يقرب من 35 سنة، وربما من حسن حظ العراقيين أن يجربوا الدكتاتورية بأقسى أنواعها، حتى يكون ذلك درسا لهم، يجعلهم أكثر حذقاً في استثمار المرحلة الديمقراطية الحالية كفرصة لا يمكن تفويتها، فالعراق يعدّ اليوم من أفضل الأنظمة السياسية على مستوى الدول العربية، على الرغم من أن شوائب الفساد والبيروقراطية لا يزال يطبع هذا النظام ويدمغه بالشبهات والتكهنات التي تسمح لشبح الدكتاتورية بالتجاور معه في الأجواء السياسية بين حين وحين.
وربما بسبب جهل الناشطين في مضمار السياسة، أو لا مبالاتهم، أو إصرارهم على الفشل السياسي لعدم شعورهم بما يدور في كواليس السياسة الدولية والإقليمية، لا يدركون شبح الدكتاتورية الذي يحوم فوق رؤوسهم، ولا يحسنون التنبّؤ بما يخطط له المضادّون للحكم الاستشاري الديمقراطي الذي يرغب العراقيون به، تعويضا لهم عن عقود العذاب والحرمان والألم، ولابد من التذكير أن فشل الديمقراطية يعني العودة إلى الدكتاتورية بصورة أقسى.
التفكير السياسي والثقافي يُفتَرَض أن ينصَبَّ على تربية الساسة على الثقافة الديمقراطية، ليس الساسة وحدهم، الشعب بجميع مكوناته وشرائحه وأطيافه يجب أن يتشبّع بالثقافة الديمقراطية، وقد طالب السيد الإمام الشيرازي في الكثير من كتبه بالأخص كتاب (الشورى في الإسلام)، بنشر ثقافة السلوك الديمقراطي في المؤسسات والمنظمات الحكومية والمدنية، والمؤسسة التعليمية، الجامعات والمدارس، وطالب السيد الشيرازي بأن تُجرى انتخابات لاختيار قادة المؤسسات والمنظمات والنقابات والاتحادات في الجامعات، حتى يتعلم الجميع الأسلوب الاستشاري، ويعتادوا الثقافة الديمقراطية والحرية المسؤولة.
واقع النشاط السياسي، والمؤسسات المهتمة به، يُنبئ عن حزمة أخطاء يرتكبها الفاعلون (كتل وأحزاب وبعض المؤسسات) في السياسة العراقية بمجموعهم، فهؤلاء وهم يغوصون في لجة الضجيج السياسي قد لا يدركون ولا يرون ما يحدث كما يراه المتفرّج المتابع المنفصل عن (دائرة) حراكهم المشوب بالتصدّع والخلخلة في الأداء، فمنذ بدء مرحلة الانتقال من الدكتاتورية إلى المرحلة الجديدة، سادت نزعات استحواذية، وصارت المصالح الحزبية والفردية والعائلية بديلا عن الشعبية والوطنية، إلا إذا استثنينا التصريحات والكلمات المعسولة للقياديين.
فالكلام جلّه وطني التوجّه، ديمقراطي، استشاري، يعد بالمزيد من الانجازات لصالح من ذاقوا الظلم الدكتاتوري، ولكن حين نأتي إلى العمل وتنفيذ الوعود فكل شيء سيتحول إلى هباء أو إلى هواء في شبك، وعلى مدى السنوات المتعاقبة والحكومات المتتالية في مرحلة الانتقال، لم يتعظ القادة ولا غيرهم من صنّاع السياسة وأرباب الاقتصاد، أو أقطاب التعليم، سادت الصراعات، والمساومات، والصفقات المشبوهة، تلكّأت المشاريع، وتدنّت مقاييس العيش الهانئ، التعليم تعرّض إلى اختلال بيّن، وكذا الزراعة والصناعة، والصحة، وكثير من القطاعات، الشيء الوحيد الذي تم إتقانه تطوير القطاع النفطي بصورة لافتة، حتى أخذ العراقيون يتندّرون على هذا التطور كونه يدرّ الأموال على الأحزاب والكتل والجهات الخارجية المستفيدة، وهناك أمثلة كثيرة على هذا التلكّؤ.
الخلل الأكبر ليس في اعوجاج الإدارة السياسية والاقتصادية فحسب، إنه ينبع من مركز هذه الخلخلة الفاضحة في الفقر الثقافي إزاء نشر الديمقراطية والاستشارية بين الناس، حتى تكاد الدائرة والمؤسسة الحكومية الصغيرة، تصبح صورة مصغرة للتضارب السياسي الأعلى، الصراع على المناصب في أوجه، ونزعة التفرّد قوية، وانتفاء تام لمبدأ الكفاءة الصحيحة في الموقع المناسب، الأحزاب تضع أعضائها في مواقع لا يصلحون لها، والكفاءات تُركَن على الرف، النتائج تعدد أشباح الدكتاتورية وظهورها بين فترة وأخرى، تعطي إشارات لا تقبل الخطأ على مستوى الخطر الذي يتربص بالتجربة الديمقراطية.
آفاق الحلول كثيرة، يمكن استجلاءها بيسر وحذق، تؤدي بالنتيجة إلى غلق المنافذ والثغرات التي يتسلل من دعاة الدكتاتورية، حيث نجد من يصرح بلا حرج بالعودة إلى النظام المركزي، ومنهم من يفضل الدكتاتور، وبشكل أخف الدعوة إلى النظام الرئاسي، ولا يتورع البعض عن المطالبة بإعلان حالة الطوارئ وتسليم البلد بيد حكومة إنقاذ!!، هذه الدعوات لا يمكن أن تكون بلا دوافع، إنها محاولات علنية للعودة إلى الدكتاتورية، والمؤسف أكثر أن هناك من الشعب نفسه من لم يثق بالديمقراطية، وينظر إليها على أنها أسّ المشكلات، ولا يظن أن الساسة الخاطئين في التطبيق هم السبب، الخطر يحيق بنا، والمبادرة إلى تعميم الثقافة الديمقراطية فكرا وسلوكا استشاريا هو الحل الأكثر صوابا، خلاف ذلك سوف يبقى شبح الدكتاتورية يحوم في أجوائنا كعنصر تهديد لا يتوقف!.
اضف تعليق