وتأتي دعوة الاجتثاث هذه في أعقاب دعوات متكررة لاجتثاثات مستمرة في داخل الدولة السعودية شملت الليبرالي والعلماني وفق خاشقجي الذي يصنفها ضمن ما يسميه (خصومة اهل السنة) في أضيق مجال يمارسه صوت خاشقجي ويؤشر لديه صعوبة التعايش المجتمعي في الدولة السعودية على مستوى أكثر خصوصية...

كان خاشقجي يصطدم بصخرة صماء في الثقافة السعودية لا سيما الدينية والسياسية وهي رفض المختلف دينيا وسياسيا، ولكنه رأى فيما يذهب اليه الملك السعودي السابق عبد الله بن عبد العزيز من ضرورة قبول المختلف في داخل البلاد أو لعله هكذا أوحت كلمات الملك عبد الله الى خاشقجي بإمكانية مجال لصوت يجاهر بالمختلف، لذلك كتب في صحيفة الوطن السعودية التي كان يرأس تحريرها (انا سعودي ولكن مختلف) وفق ما كتبه في جريدة الحياة في سبتمبر 2017م وجاء مقاله هذا وبنفس العنوان في جريدة الحياة على أثر الحملة الاعلامية والدينية داخل السعودية لاجتثاث تيار السرورية في العام 2017م وهو التيار الثاني في قبالة التيار القطبي الذي انقسمت اليهما جماعة الاخوان المسلمين.

وتأتي دعوة الاجتثاث هذه في أعقاب دعوات متكررة لاجتثاثات مستمرة في داخل الدولة السعودية شملت الليبرالي والعلماني وفق خاشقجي الذي يصنفها ضمن ما يسميه (خصومة اهل السنة) في أضيق مجال يمارسه صوت خاشقجي ويؤشر لديه صعوبة التعايش المجتمعي في الدولة السعودية على مستوى أكثر خصوصية في تركيبة هذا المجتمع الدينية ذي الوجهة الأصولية السلفية، وهو ما أدى الى استخلاص نظرة لدى خاشقجي في الدولة السعودية جاءت في مقالته تلك:

(ان بيننا مسؤولين، وربما مثقفين وعلماء دين، لا يزالون يرون أن التنوع غير صحي، وأن المجتمع السليم يجب أن يكون صورة متطابقة في الرأي والمعتقد، وهي نظرية فشلت حتى في أكثر الدول الشمولية عتياً، وما نحن بدولة شمولية).

لكن خاشقجي كان يجانب الصواب كثيرا في تصنيفه الدولة السعودية بانها دولة غير شمولية، بل هي أكثر الدول الشمولية عتيا في العالم ولذلك لا مجال فيها قانونيا وسياسيا للصوت المختلف، ونفي الشمولية عن النظام السياسي السعودي تعكس رغبة خاشقجي الملحة في نمذجة الدولة السعودية وحرصه على مكانتها الاسلامية والدولية، وله محاولات وكتابات عديدة في تبرئتها من الشمولية والعتي الدكتاتوري والتكفيري والصاقها من جانبه بـ (منهج التيار المتشدد الذي ساد يوماً وتنمّر) كما جاء في مقالته في الحياة اللندنية.

والمفارقة ان خاشقجي يقلص حجم تَسيُد التيار المتشدد والتكفيري بحجم يوم رغم أنه دوما كانت له الولاية الدينية والهيمنة الوهابية، ويصفه بالمتنمر وهو توصيف يهدف الى تقليل قيمته وقوته وأهميته في الدولة السعودية على الرغم من أنه أحد ضحاياه، ولم يتمكن باستعانته بخطاب الملك عبد الله واحتمائه بخطابه السياسي- الرسمي وبيان مجلس الوزراء السعودي الذي صاغ خطاب الملك عبد الله بعبارة (حق الناس في الاختلاف) أن يُسمع الصوت المختلف وأن يواجه هذا التنمر وهذا التيار المتشدد، فأقدمت لجنة الشكاوى في وزارة الاعلام على رفع شكوى هيئة الادعاء والتحقيق بوجه خاشقجي وكان موضوع الاتهام هو تهديد الوحدة الوطنية ولحمة الوطن والذي اقتنعت به اللجنة القضائية وفق خاشقجي، وأصدرت حكمها لصالح هيئة الادعاء والتحقيق.

واثار هذا الاتهام استغراب وامتعاض خاشقجي من الداخل السعودي المتشدد والمتنمر الذي اعتبر التنوع والتعدد الثقافي والديني – الاسلامي يهدد وحدة الدولة والمجتمع السعودي وهو يعكس عمق الجانب الشمولي في المجتمع السعودي ومؤسسات وهيئات الدولة السعودية وليس مجرد ذاك التنمر وليوم فائت كما يقول خاشقجي، بل هو أعمق جذرا واشد عودا، وصدر على أثر ذلك اعفائه من منصبه في جريدة الوطن السعودية وكانت تلك البداية في المواجهة بين خاشقجي والدولة السعودية او المواجهة بينه وبين الدولة الاكثر شمولية في العالم.

وتطورت المواجهة الى منع خاشقجي من النشر في جريدة الحياة التي تعود ملكيتها الى الدولة السعودية ووفق خاشقجي وضعته تلك الجريدة على القائمة السوداء من الممنوعين من النشر فيها ويفسر خاشقجي ذلك لأنها تعود في ملكيتها للدولة السعودية، جاء ذلك في مقالته التي نشرها على موقع عربي 21 بتاريخ 3 / ديسمبر / 2017 م وبعنوان (المملكة العربية السعودية الجديدة... السلطة المطلقة في قبضة ولي العهد) التي كشف فيها عن خلاصة تجربته السياسية والمهنية – الصحافية في الدولة السعودية وقناعته (أنه لم تعد توجد مسافة الآن بين موقف الحكومة الرسمي وبين ما يسمح لنا نحن معشر المواطنين بالتصريح به) لكنه ليس الآن كما يذهب الى ذلك خاشقجي بل هي في كل آن وزمان تلك سياسة الدولة السعودية في التعامل مع حرية الرأي، بل هو ما حاول خاشقجي تضمينه في مقالته تلك أنه يقول (كنا في الماضي نتمتع بهامش أكبر بكثير – ما كنت لأصف ذلك بأنه كان حرية في التعبير، ولكنه في نفس الوقت لم يكن أمرا بطاعة عمياء مطلقة)، أنه يصف مجالات حرية الرأي الممكنة في الدولة السعودية بالهامش حتى قبل صعود نجم ولي العهد الجديد محمد بن سلمان وهو نفسه خاشقجي لايستطيع وصف ذلك الهامش من الحرية بانه الحرية في التعبير وهو يقول في هامش الحرية تلك (في بعض الاحيان لم تكن القيادة السياسية هي التي لديها مشكلة فيما نكتبه او نقوله)، مما يكشف عن وجود مشاكل بينه وبين القيادة السياسية السعودية في بعض الأحيان مع استعمال دلالة بعض الأحيان في الكشف عن اللامقول او المسكوت عنه، لكنه يحيل كل المشاكل الى القيادة الدينية السعودية التي يقول عنها أنها (أكثر تحسسا) تجاه ما يكتبون ويقولون، وكلمة "تحسسا" في وصف موقف المؤسسة الدينية السعودية تكشف عن احجامه عن التعرض للمؤسسة الدينية – الوهابية يشكل علني وظاهر، لاسيما وانها يبدو قد انسحبت أو أجبرت على الانسحاب من قبل ولي العهد محمد بن سلمان والتي وصفت سياساته أوربيا تجاه المؤسسة الدينية السعودية بانها إصلاحية.

لكن خاشقجي كانت له مؤشرات أخرى غير ما ذهبت اليه المؤسسة السياسية الأوربية وصرح بها مبكرا في تضييق مجالات الصوت المختلف على عهد محمد بن سلمان، فقد وصف الحكومة السعودية في ظل بن سلمان بأنها لم تعد تتسامح مع كل أشكال النقد سواء منها السخرية السياسية او المطالبات بالديمقراطية والتي أدت الى حملة اعتقالات بحق اولئك الذين مارسوا هذه الأشكال من النقد السياسي للنظام السياسي في الدولة السعودية - موقع عربي 21، السلطة المطلقة في قبضة ولي العهد- وكانت حملة الاعتقالات هي التي دفعت خاشقجي الى رفع الصوت المسموع والجهر بآرائه تجاه نظام الحكم السياسي في السعودية على عهد بن سلمان، فقد كان جل المعتقلين من أصدقائه وفق ما يقول لكنهم كانوا اكثر من أصدقاء، أنهم شركائه في عقيدته السياسية ومنظومته الفكرية التي تنسحب لصالح الإخوان المسلمين، واغلب هؤلاء المعتقلين هم من المصنفين رسميا من الإخوان المسلمين.

وهنا استشعر الخطر خاشقجي شخصيا تجاه سياسات بن سلمان التعسفية مما جعله أكثر حدة وجرأة في الصوت المسموع الذي تمتلكه صحيفة الواشنطن بوست دوليا، وهو ما رفع من حجم قدرة المواجهة مع نظام محمد بن سلمان الذي أطبق على السلطة بشكل تام في الدولة السعودية بعد التصفية المالية والمعنوية للمنافسين الممكنين له من أمراء العائلة المالكة، وحين طلب منه بعض أصدقائه السعوديين ومنهم الملياردير الوليد بن طلال التزام الصمت أعلن أنه يريد أن يكون له صوت مسموع – موقع عربي 21 -.

ويبدو ان ذلك تحقق له بعد انخراطه في العمل الصحفي في جريدة الواشنطن بوست وتخصيص عمود له على صفحات هذه الجريدة الدولية التي منحته امكانية الصوت المسموع، وكانت هذه الصحيفة هي التي قادت حملة المطالبة بالكشف عن مصير خاشقجي ووصل صوتها الى ارجاء العالم وبلغ قوة صوت الواشنطن بوست وقوة الصوت الصحفي العام الذي تمثله كبريات الصحف الاميركية الاخرى أنها أرغمت ترامب والمملكة السعودية على تغيير سياساتهم تجاه قضية خاشقجي التي توخت التعتيم عليها والتضليل فيها وتفنيد نظرية القتلة المارقين التي تبناها ترامب وحاولت الدولة السعودية الاحتماء بها من الغضب الدولي العام تجاهها، لكن خاشقجي ذهب ضحية ذلك الصوت المسموع وهو الثمن المعتاد على دفعه كل أولئك الذين يخالفون أنظمتهم السياسية والقمعية في عالمنا وتظل نهايته تماثل كل النهايات التي يختتم بها المخالفون السياسيون حياتهم، لكن المأساة ان يقطع جسده بالمنشار وهو حي في معادلة الصوت المختلف ومحاولة صوت مسموع مما يرتفع بها الى نوع من التراجيديا السياسية في عالمنا.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق