ما أن مرت المائة الأولى من عمر الرسالة الإسلامية وبدأت الأمة في الانفتاح على غيرها من الرسالات السابقة بدأ هناك تأثير واضح لهذه الرسالات في طريقة تفكير وتناول بعض المسلمين، خاصة تلك المجموعات التي اشتغلت بالفلسفة وتأثرت تأثيرا مباشرا بمعارف السابقين وكان على رأس هؤلاء...
ورد في الأحاديث الآتية عن رسول الله (ص) متابعة هذه الأُمة للأُمم السابقة في كلّ ما فعلوا حذو القذة بالقذة، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع في ما رواه كلٌّ من:
أ - الصدوق في إكمال الدين عن جعفر بن محمّد الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (ص): «كلّ ما كان في الأمم السالفة فإنّه يكون في هذه الأُمة مثله، حذو النعل بالنعل والقذَّة بالقذَّة».
وروى الصدوق - أيضاً - في إكمال الدين عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله (ص):.
«والّذي بعثني بالحقّ نبيّاً وبشيراً لتركبنّ أمّتي سنن من كان قبلها حذو النعل بالنعل حتّى لو انّ من حيّة بني إسرائيل دخلت في جحر لدخلت في هذه الأُمة حيّة مثلها».
.أحمد في مسنده ومسلم والبخاري في صحيحيهما واللفظ للأخير، عن بي سعيد الخدري (1)، عن النبيّ (ص) قال:
« لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم ».
قلنا: يا رسول الله ! اليهود والنصارى؟.
قال: فمن؟ ».
وفي رواية أخرى بمسند أحمد:
«لتتبعنّ سنن بني إسرائيل حتّى لو دخل رجل من بني إسرائيل جحر ضبّ لتبعتموه».
ما أن مرت المائة الأولى من عمر الرسالة الإسلامية وبدأت الأمة في الانفتاح على غيرها من الرسالات السابقة بدأ هناك تأثير واضح لهذه الرسالات في طريقة تفكير وتناول بعض المسلمين، خاصة تلك المجموعات التي اشتغلت بالفلسفة وتأثرت تأثيرا مباشرا بمعارف السابقين وكان على رأس هؤلاء جماعة المعتزلة...
ثم ما لبس أن دار خلافا حامى الوطيس بين جماعة المعتزلة وجماعة الحديث ومثل الجماعة الأولى أحمد بن أبى داود و ثمامة بن الأشرس ومثل جماعة الحديث أحمد بن حنبل وجماعته - جماعة الحديث....
هذا الخلاف الذي دار بين جماعة المعتزلة وجماعة الحديث كان حول القضية المشورة بـ "خلق القرآن"...
القضية بدأت على يد اليهودي أبو شاكر الديصاني، ثم تبناها بعد ذلك يوحنا الدمشقي وهو قس نصراني وعامل بني أمية في بيت المال..
والمعروف في الدين المسيحي أن الله جوهر له ثلاثة اقانيم أو ثلاثة صفات منها أقنوم العلم المتمثل في الابن (المسيح عيسى بن مريم) والصفات قديمة وأزلية بقدم وأزلية الله وبالتالي تكتسب صفة الإلوهية.
كان الدمشقى يناظر علماء المسلمين وعوامهم بقوله: هل تقولون بأن عيسى كلمة من ربه أوحاها إلى مريم وروح منه؟
فإذا قال المسلم: نعم
قال يوحنا الدمشقي: وكلمة الله غير مخلوقة، إذن عيسى غير مخلوق !!
وان قال المسلم:- لا
يقول يوحنا:- إذا القرآن مخلوق، والخلق عند العامة هو الاختلاق، والاختلاق كذب.
هذه المشكلة كانت تستوجب ردا بطريقة عقلية وفلسفية من جمهور المسلمين وعلمائه وهنا تبنى المعتزلة هذه القضية باعتبارهم أصحاب السلطة، ومن ثم دخل الحنابلة أيضا على الخط باعتبارهم فقهاء الأمة وأهل الحديث.
المعتزلة هم من تبنوا قضية "خلق القرآن" وفقا للتفسير اللغوي والفلسفي وأيضا القرآني، خوفا من اتباع منهج النصارى في قضية القرآن والذي يمكن أن يجعل الغلبة للنصارى على المسلمين....
فكلمة "الخلق" في اللغة هو ابتداع الشيء من العدم على مثال لم يسبق عليه، يعنى الإجاد من العدم على صورة لم يكن لها سابق قبلها.
أي أن القرآن خلق في وقت لم يكن موجود قبل خلقه.
وهذا التفسير جاء من رؤية المعتزلة الاعتقادية في الله تعالى فهم يرون أن لله تعالى صفتان...
الأولى: صفات الذات:- وهي الصفات اللي يوصف بها الله وحده فقط، ولا يوصف بها أيا من خلقه، والله يتصف بها فقط ولا يتصف بعكسها، مثل العلم والحياة والقدرة، فالله عالم في ذاته وليس بجاهل، والله قادر في ذاته وليس بعاجز، والله حي في ذاته وليس بميت.
الثانية: صفات الفعل:- هذه صفات يراها المعتزلة تجمع بين النقيضين فالله تعالى قد يتصف بالصفة ونقيضها في نفس الوقت، مثل المحيي والمميت، وهذه الصفات لزم وجودها وجود مفعول به من أجل وقوع الفعل عليه، وهنا لابد من وجود مخلوق يتحقق به صفات الفعل.
ويرى المعتزلة أن الكلام صفة فعلية لله تعالى وليست صفة من صفات الذات، فالله قد يكلم شخص ولا يكلم شخص آخر، فالله تعالى كلم موسى، ولم يكلم هارون ولا فرعون، وبالتالي الصفة ونقيضها فتصبح من صفات الفعل، ولو كان الكلام من صفات الذات لكان قديم قِدم الإله نفسه، لكن كلام الله المقصود به القرآن غير أزلي لأنه يحتوي على أمر ونهي ووعيد ووعد، كما أن القران مركب من كلمات والكلمات تشكل في مجموعها جمل، والقرآن نزل مفرقا وفقا للحوادث ولم ينزل جملة واحدة وهذا يجعل القرآن - الكلام - ليس من صفات القدم أو الأزلية، وكل شيء مخالف للقدم فهو محدث.
كما ساق المعتزلة أدلة أخرى على أن القرآن والكلام ليس من صفات الأزل، فالقرآن فيه نهى وأمر، فكيف ينهى ويأمر قبل وجود الخلق وقبل وجود الكون؟!!
وعليه رأى المعتزلة أن الكلام يتطلب محل ويستحيل أن يكون هناك كلام بدون محل يقع عليه الكلام، وبالتالي القران غير أزلي ولا قديم.
كانت تلك الأدلة بعض مما أورده المعتزلة لحل تلك المعضلة، هذا بالإضافة إلى عدد من الأدلة النقلية مثل قول الله تعالى (ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث)، وقوله تعالى (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) وعليه فإن كل شيء قبله شيء فهو شيء محدث.
أما الحنابلة فقد قالوا:
صفة الكلام هي صفة الله الذاتية تنفي عن الله تعالى نقيصة الخرس، كما تنفي صفة العلم عن الله نقيصة الجهل، والقرآن ليس هو صفة الله الذاتية القديمة غير مخلوقة بل القرآن الكريم هو وحي الله وتنزيله وكلامه باعتبار أن كل كلام ينسب إلى منشئه وعندما أنشأ الله القرآن وخلقه أنشأه وخلقه بلا كسب من أحد عباده قال تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)، فالقرآن كلام الله بغض النظر عمن يتلوه من جهة أن كل كلام ينسب إلى منشئه، والقرآن مخلوق بلا أدنى شبهة أو ريب، وعيسى عليه السلام ليس صفة لله وهو مخلوق بلا أدنى شبهة أو ريب...
حاول المعتزلة فرض رأيهم بالقوة والقمع لكل الآراء المعارضة واعتبروا أن وجود رأى معارض في قضيتهم "خلق القرآن" هو معارضة للسلطة باعتبار أن أحمد ابن أبي داؤود كان وزير الخليفة المأمون، وبدا يستخدم سلطته السياسية في قمع أي رأيي معارض لرأيي المعتزلة، وعليه فقد قام بسجن احمد بن حنبل وتعذيبه وكان في إراقة دماء لكل رأيي مخالف.
الحنابلة أقنعوا العامة بأن كل مخلوق ميت، وهذا يخالف النص الصريح الواضح بخلود القرآن قال تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وهذا كان رد القاضى عبد الجبار في معرض رده على المعتزلة والذي استطاع أن يجيش العامة في مواجهة المعتزلة...
كان الخطأ الكبير الذي وقع فيه المعتزلة هو اضطهاد الحنابلة الذين كانوا محل تقدير من العوام والناس لأنهم فقهاء وقد قال أبو العتاهية في ذم أحمد ابن أبي داؤود:
لو كان رأيك منسوبًا إلى رشد..وكان عزمك عزمًا فيه توفيق
لكان في الفقه شغل لو قنعت به..عن ان تقول كلام الله مخلوق
ماذا عليك وأهل الدين يجمعهم..ما كان في الفرع لولا الجهل والموق
هذه القضية كانت يمكن لها أن تمر وتبقى في وسط النخبة الدينية والفلسفية دون أن تصبح قضية رأى عام، وتكون امتحان كبير للمعتزلة انتهت المعتزلة بعد هذه القضية انتهاء تام، ولم يعد لها أثر اليوم وبقى تيار أصحاب الحديث منتصرا ليتولد منه تيارات سلفية متعددة وكان الدافع في مبتدأ القول للنصارى وأثرهم في الفكر الإسلامى، وكان انتصار السلفية أو الحنابلة أو أصحاب الحديث هو غباء المعتزلة الذين اعتمدوا سلطة القهر بعد أن جيش الحنابلة العوام في مواجهة السلطة.
اضف تعليق