حين بلغ النبي بجيشه مشارف المدينة قافلا من تبوك، أمر فريقا من الجيش بالتوجه إلى مسجد من أجل هدمه، وقد نعتت المصادر التاريخيّة المسجد بمسجد الشقاق، كان ذلك في السّنة التّاسعة للهجرة، ولم تقدم هذه المصادر أيّة معلومات إضافيّة عن دوافع القرار، لكنّ التسميّة توحي بأنّ بُناة المسجد كانوا يسعون للقيام بحركة ذات طابع انشقاقيّ عن الإسلام وفي نطاق الإسلام، والحادثة تغري باستجلاء أبعادها على الرغم من أنّ المؤرخين لم يولوها أيّة أهميّة باعتبارها حادثة ثانويّة في التاريخ الإسلامي المبكر؛ وغرضنا في هذا البحث تحليل المعطيات المتوفّرة في المصادر التاريخيّة المختلفة من أجل استجلاء غموض الحدث، والوقوف على دلالات الحدث.
من أجل دراسة هذه الحادثة يتأتى علينا دراسة البيئة الاجتماعيّة في المدينة حينذاك، ولكي تكـون الصورة جليةً فنحن مضطرون على وجه الخصوص لدارسة أحداث السنتين الماضيتين السياسيّة.
فتح مَكَّة (رمضان 8 هـ-يناير/كانون الثاني 630 م)
على أثر النزاع المسلح الذى حدث بين بني بكر ـ حلفاء قريش ـ وخزاعة ـ حلفاء النبي ـ، قام النبي بنقض صلح الحُدَيبيَة والّذي عُقد في 6 هـ/628 م بينه وبين قريش، ولم يكن قد مضى عليه أكثر من اثنين وعشرين شهراً؛ فرأى أنه في حلٍّ من الالتزام بميثاق الهدنة مع قريشٍ بعدما قامت قريشٌ بإمداد بني بكر بالسلاح، وشارك بعض مقاتليها ضد حلفائه الخزاعيين.
تمكن النبي من جمع عشرة آلاف مقاتل: من بني سُلَيم، وبني غِفار، ومن أسْلَم، ومن مُزَيْنة، ومن جُهينة، وهي قبائل متمركزة حول المدينة، علاوة على المهاجرين والأنصار، ومجموعات من تميم، وقيس، وأسد [1].
لما وصلت الجيوش إلى مشارف مَكَّة، كان سعد بن عبادة يحمل راية المسلمين؛ فتناقلت الألسن قولاً على لسانه: ((اليوم يوم المَلحَمَة، اليوم تُستَحَلُّ الحُرْمَة، اليوم أذلّ اللّه قريشاً))، فأخبر أحد المهاجرين النبي[2]. وقيل إن سعداً قالها أمام أبي سفيان عندما مرت أمامه كتيبة الأنصار، وإنه قال: ((يا أبا سفيان اليَوْمَ يَوْمَ الْمَلْحَمَة الْيَومَ تُسْتَحَلّ الْكَعْبَةُ)) [3]؛ مما دفع عثمان، وعبد الرحمن بن عوف إلى التحذير من عواقب هذا الوعيد، وقالا: ((ما نأمن أن تكون له في قريش صَوْلةٌ !))، وخوفاً من ذلك أخذ النبي منه الرّاية وأعطاها لعليّ بن أبي طالب، أو للزبير[4]، أو لقيس بن سعد ـ ابنه ـ [5]، ورفض مقالة سعدٍ، فقال: ((كذبَ سعدٌ ولكنْ هذا يوم يُعظّم اللّه فيه الكعبة))[6]. ويبدو أنّ السبب الذي دفع بسعد لهذا القول هو انّه لم يكن قد نسي كيف أنّ قريشاً قد قبضت عليه عقب بيعة العقبة الثانية بينـا كان يغادر مَكَّة، وربطوا يديه إلى عنقه بِنِسْع رَحْله، وجاءوا به إلى مَكَّة يضربونه، ويجرونه بشعره، ولم يتحرر منهم إلا عندما حرره جبير بن مطعِم والحارث بن أميّة، وكان يجيروهما في يثرب [7].
لم يلق جيش النبي أي مقاومة من القرشيين، باستثناء مجموعة تمركزت بالخَنْدمة لتقاتل بقيادة صَفْوان بن أُميَّة، وعِكْرمة بن أبي جهل، وسُهيل بن عمرو، فجرت بينها وبين قوات خالد بن الوليد مناوشات انهزمت على إثرها المجموعة المدافعة.
لم يحاول النبي التنكيل بالمنهزمين، أو خرق نظام المدينة المستسلمة الداخلي، وقد تجلّى ذلك عندما طلب أحدهم من النبي أن يجمـع لبني هاشم الحِجابـة مع السِّقاية؛ فرفض مُحَمَّدٌ ذلك، وطلب استدعاء عثمان بن طلحة ـ الذي كان مسؤولاً عن الحجابة ـ، فدُعِي له، فقال: ((هاكَ مِفتاحك يا عثمان، اليومُ يومُ برّ ووفاء)). لكنّ بعض وجوه قريش لم تكن تشعر بالرضى، فوصلت إلينا بعض التعليقات الساخطة.
تعليقات القرشيين الساخطين:
لما جاء وقت الظهر أمر مُحَمّدٌ بلالاً أنْ يؤذن على ظهر الكعبة، فلما أذّن استنكر القرشيون أنْ يؤذن على ظهرها رجل أسود، وقالت جويرية بنت أبي جهل: ((لقد أكرم اللّه أبي حين لم يشهد نهيق بلال فـوق الكعبة))، وقيل إنّها قالت: ((لقد رفع اللّه ذكر محمّد، وأمّا نحن فسنصلي ولكنّا لا نحب من قتل الأحبة))، وأضافت ـ حسب الأزرقي ـ ((ولقد جاء إلى أبي الذي كان جاء إلى محمّد من النّبوّة فردها ولم يرد خلاف قومه))، وقال خالد بن أسد: ((لقد أكرم اللّه أبي فلم يرَ هذا اليوم))، وكان والده قد مات عشيّة فتح مَكَّة، وقال الحارث بن هشام: ((ليتني متّ قبل هذا اليوم))، أو((وا ثكلاه ! ليتني متّ قبل أنْ أسمع بلالاً فوق الكعبة)) أو ((ما وجد محمّد غير هذا الغراب مؤذناً))[8].
بالرغم من أنّ هذه التعليقات كانت تعبيراً عن عدم الرضى، إلاّ إنّ الدخول السلمي للمدينة قام بالحفاظ على الطابع السلمي لها، وسمح بدمج مَكَّة عمليّاً بالمشروع المحمّدي.
معركة حُنَيْن
لم يكد النبي يمكث في مَكَّة نصف شهر؛ حتّى زحفت نحوه هَوازِن وثَقيف، بقيادة مالك بن عوف النصَّرْي ـ رئيس هَوازِن، وكان عمره يومئذ ثلاثين سنة فعسكروا بحُنَيْن من أجل محاربة المسلمين [9]، وقد طلب ابن عوف من المقاتلين اصطحاب أموالهم ونسائهم وأبنائهم كي لا يفكر أحد من مقاتليه بترك ساحة المعركة، لأنّه أراد أن تكون المعركة دامية، ونهائيّة.
خرج النبي لمواجهة القوات القادمة ومعه ألفا مقاتل من أهل مَكَّة مع المقاتلين الذين شاركوا في فتح على مَكَّة، فبلغ عددهم اثنا عشر ألفاً.
اصطدمت القوتان في وادي حُنَيْن، فدارت الدوائر على جيش النبي إذ انهزم في البدء بنو سُليم، وتبعهم أهل مَكَّة، ثم بقية المجموعات القبليّة؛ فعبّر أبو سفيان بن حرب عن شماتته، فقال: ((لا تنتهي هزيمتهم دون البحر))، وصرخ جَبَلة بن الحنبل ـ أخ صفوان بن أميّة لأمه ـ: ((ألا بطل السِّحْرُ اليومَ !))، فقال صفوان ـ وهو غير مقر بالإسلام بعد ـ: ((اسكت فضَّ اللّه فاكَ، فواللّه لأن يَرُبَّني – [يملكنى]- رجلٌ من قريش أحب إليّ من أن يربَّني رجل من هَوازِن))[10].
وفي خضم هذا الاضطراب قام العباس بن عبد المطَّلب ينادي الأنصار بطلب من النبي؛ وكانت الدّعوى أوّل ما كانت: ((يا لَلأنصار))[11]، ثم انتهت أخيراً: ((يا لَلْخزرج))، وقيل إنّ النّداء اقتصر أخيراً على بني الحارث من الخزرج، وكانوا مشهورين بالثبات في المعارك، وأخيراً انقلبت موازين القوى، فصار النصر حليف المسلمين.
حصار الطائف بعد حُنَيْن
تراجعت قوات ثقيفٍ المنهزمة نحو الطائف، فتحصّنت فيها لمواجهة قوات المسلمين، الّتي كانت تسير إليهم؛ ثم إنّ جيوش المسلمين وصلت إلى الطائف، فضربت عليها حصار دام عشرين ليلة تقريباً، ولم يجرِ اشتباك مباشر بين الطرفين[12].
تيقّن النبي من استحالة اقتحام الطائف، فقرّر الرّحيل، ثمّ توجه بعد فشل الحصار صوب منطقة الجعْرانة، وبها سبي (نساء، وأبناء) هَوازِن؛ وكانت حصيلتهم ستة آلاف من نساءٍ، وأبناءٍ، إضافةً إلى عدد كبير من الإبل والشّاءِ.
قسمة الغنائم
جاء النبي وفدُ هَوازِن وهو لم يشرع بعد بتوزيع الغنائم، فأعلن استسلام قومهم، وأقروا بالإسلام؛ عند ذلك خيّرهم النبي بين نسائهم وأبنائهم، أو أموالهم، فاختاروا أبناءهم ونساءهم، فقال لهم: ((أمّا ما كان لي ولبني عبد المطَّلب فهو لكم، فإذا صلّيتُ بالناس فقولوا: " إنّا نستشفع برسول اللّه إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول اللّه في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم وأسأل فيكم ")). فلمّا صلّى الظهر، فعلوا ما أمـرهم به؛ فقال النبي: ((ما كان لي ولبني عبد المطلب فهولكم))، فقال المهاجرون، والأنصار نفس المقالة؛ لكنّ زعماء القبائل البدوية رفضوا بالنيابة عن قبائلهم، فرفض الأقرع بن حابس زعيم تميم، وعُيَيْنة بن حصْن زعيم فزارة، والعبّاس بن مِرْداس زعيم بني سُلَيم، لكنّ قوم الأخير لم يقبلوا بقراره، فقال لهم: ((وهنّتموني)).
لمّا رأى النبي أنّ الأغلبيّة رافضة للتنازل عن المغانم، قال: ((أمّا من تمسَّك منكم بحقه من هذا السَّبي فله بكلّ إنسان سِتُّ فرائض[13]، مـن أوّل سَبي أصيبُه، فـردُّوا إلى النّاس أبناءهم ونِساءهم))[14]. وما أنْ سوّى النبي مسألة السّبيّ حتى تَّبعه المقاتلون يطالبون قسمة الفيء من الإبل والغنم، حتّى ألْجَئُوه إلى شجرة، فتشبكت بردائه حتّى نزعته عن ظهره[15].
عطاء المؤلفة قلوبهم
كانت استراتيجيّة النبي تتلخص بكسب أشراف القبائل، من أجل الحصول على تأليف قلوبهم للإسلام، وحتى يعلموا أن الإسلام لن يحط من قدرهم؛ وكان الهدف الأبعد هو امر الوصية التي لم بقى على إعلانها الا القليل، ولهذا شرع بإعطاء أشراف الناس، فأعطى: أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية، وصفوان بن أميّة ـ العدو الّلدود السابق، والَّذي لم يقر بالإسلام بعد ـ، وحكيم بن حِزام، والحارث بن الحارث بن كَلَدة، والأقرع بن حابس وعُيَيْنَة بن حصِنْ ـ الّلْذَين رفضا التخلي عن السبي ـ كل منهم مئة بعير؛ وأعطى دون المئة رجالاً منهم العبّاس بن مِرْداس؛ فرفض الأخير العطاء، فأعطاه النبي حتّى رضى[16]، وربّما كي لا ينكسر بعد أنْ رفض قومـه طاعته، ويزداد وهنه على وهن. وقد بلغ عدد المؤلفة قلوبهم الأربعين[17]. ومن أجل نفس الهدف أرسل إلى مالك بن عوف يعرض عليه صفقة تتضمن إعلان الإسلام مقابل رد أهله، وماله، إضافة لحصوله على مئة بعير؛ فأُخبر مالك بذلك، فخرج من الطائف، وأعلن إسلامه[18].
أثار ذلك حنق بعض المقاتلين من الأعراب، فجاء رجلٌ إلى النبي من بني تميم يُقال له ذو الخُوَيْصِرَة، فقـال: ((يا محمّد، قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا الـيوم))، وتابـع الرجلُ قائلاً: ((إنّك لم تعدل اليومَ))[19].
موقف الأنصار
ما إنْ أعطى النبي قريشاً، وقبائل العرب المشاركة، ولم يعطِ للأنصار شيئاً، حتى شرعوا بالاحتجاج على نتائج القِسْمَة، فقالوا لبعضهم: ((لقد لقي واللّه النّبيّ قومه))، وقال رجل من الأنصار ((ما أراد بها وجه اللّه)) [20]، وقالوا: ((سيوفنا تقطر من دمائهم وغنائمنا تقسم فيهم)).
توجه سعد بن عبادة إلى النبي من أجل أنْ ينقل إليه اعتراض الأنصار على قِسْمَة الفيء، وحرمان الأنصار منها[21].
هنا أدرك النبي خطورة الوَضْع؛ فجمع الأنصار، فخطب فيهم قائلاً: ((واللّه لو شئتم لقلتم فصدقتم: أتيتنا مكذّباً فصدّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فواسيناك، أوَجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا تألّفت بها قوماً ليُسْلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، أفلا ترضون أن يذهب الناسُ بالشاة والبعير، وترجعوا برسول اللّه إلى رحالِكم؟ والَّذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار، ولو سلك النّاس شِعباً وسلكتِ الأنصار شِعباً لسلكتُ شِعبَ الأنصار))[22].
تمكّن النبي من السيطرة على احتجاجاتهم بخطابه المؤثّر، وقيل إنّ القوم قد بكوا حتّى بلّوا لحاهم بالدموع، وقالوا: ((رضينا برسول اللّه قسماً وحظاً))[23].
لكنّ جمرات مشاعر الغبن والحرمان كانت تتقد تحت الرماد، وسرعان ما بدأت تطفوا إلى السطح.
حملة تَبُوك (رجب ـ 9 هـ/630 م)
بعد إقامة النبي في المدينة ثمانية أشهر ـ ما بين ذي الحجَّة إلى رجب ـ، أمر الناسَ بالتَّهيُّؤ لغزو الروم، وقد أخبر عن مقصده خلافاً لعادته[24]؛ فأعلن سببَ قيام الحَمْلَة أنباءً بلغته بأنّ هرقل ملك الروم البيزنطيين، وحلفاؤه العرب المسيحيون قد عزموا على التوجه إليه[25].
كان الحـرّ شديداً، والبلاد مجدبةً، وأوضاع النّاس الماديّة سيئةً، فتجهّز المقاتلون على كره، ولذلك سُمي الجيشُ جيش العُسْرة؛ وزد من سوء الأمر أنّ قرار الحَمْلة جاء والحالة الداخليّة في المدينة كان بالغ الحساسيّة؛ إذ تعقد الوَضْع في المدينة سياسيّاً واجتماعيّاً، وبرزت أعراض أزمة خطيرة هدّدت بتقويض استقرار المركز الإسلاميّ الأم، وقد برزت أعراض هذه الأزْمَة عبر انتشار ((النفاق)) في المدينة – الطابور الخامس- بعد فتح مَكَّة، وانتصار حُنَيْن، وكان مسجد الضرار أحد تجليات هذه الأزمة في المدينة، الّتي خطط البعض للاستفادة من السخط العام في المدينة وعمل على استقطاب انصار لعملية الانشقاق.
كان الأنصار يأملون بالحصول على غنائم تعوضهم تكاليف سنوات الصراع الثّمانية مـع قريش، ولتكون أيضاً اعترافاً بمركزيّة نضالهم المشترك مع المهاجرين في تحقيق النصر الكبير على قريش. لكنّ دهشة الأنصار كانت عظيمة بصدور قرار العفو، دون الرجوع إليهم، ودون أنْ يسفر الفتح عن أيّة غنائم؛ وزاد من تعقد الوَضْع موقعة حُنَيْن، والّتي أبلى فيها الأنصار بلاءً حسناً، وبفضلهم تحولت المعركة إلى نصر، بعد أنْ كادت قوات المسلمين تُمنى بالهزيمة، والنبي نفسه هو من استنجد بهم بعدما رأى فرار المقاتلين؛ فعبّر الأنصار عن هذه المفارقة، فقالوا بعد قِسْمَة غنائم حُنَيْن: ((إنّ هذا لهو العجب أنّ سيوفنا تقطُر من دمائهم وإنّ غنائمنا تُرَدُّ عليهم))[26].
كانت غنائم حُنَيْن كثيرة، وكافية، وكان يمكن أن تُعوّض الأنصار نسبيّاً عن نتائج مَكَّة المخيبة لآمالهم، لكنّ النبي وفق حسابات تراعي الظروف السياسيّة المحيطة به، قرّر أنْ يقدّم ثمن للقبائل المشاركة في صنع هذا الحدث، والّتي شاركت من أجل الحصول على الغنائم وحسب؛ وأحد أبرز الأمثلة هو عُيَينَة بن حِصْن الَّذي شارك قريشـاً في غزوتها الفاشلة للمدينـة ـ الخندق ـ في شوال سنة (5 هـ/627 م) [27]، كما شنّ في سنة (6 هـ) هجوماً على مشارف المدينة، واستطاع الاستيلاء على إبلٍ النبي نفسه، وقتل راعيها، وخطف زوجه[28]. وفي حصار الطائف علّل عُيَينَة مساعدته النبي برغبته في الحصول على فتاة منهم كي تنجب له ولداً، لأن ثقيفاً كانت مشهورة بالدهاء والفطنة[29].
شرع النبي يوزع الغنائم على هذه القبائل، وأعطى بسخاءٍ لقياداتها، مثل عُيَينَة الَّذي وصفه بـ ((الأحمق المطاع)) [30]، مستثنياً الأنصار، كما كان يخطط كبح نزعات التمرّد، بوصفهم حديثي العهد بالإسلام كما شرح للأنصار.
وإذ تمكّن النبي من السيطرة على انفعالات الأنصار بخطبة مؤثرة فـي ساحة المعركة، ومنع الحدث من التفاعل سلبياً في حينه، إلاَّ أن تداعيات الحدث لم تنتهى، وبقى جذوة الغضب كامنة في بعض نفوس الأنصار.
فكان هذا الوَضْع بلا شك البيئة المثلى لمشاعر الإحباط والغضب، والشّعور بالظّلْم، التي تم استثمارها من قبل المنافقين والطابور الخامس الذى كان يراقب الوضع في المدينة عن كثب قبل أن يقطع النبي عليه هذه الخطة بحشد الناس إلى مكمن الخطر في تبوك.
ولهذا بالضبط تقرر القيام بغزوة تَبُوك، بالرغم من تبرّم النّاس منها، وبروز معارضة جديّة لهذه الغزوة، لعب فيها المنافين الدور الاعظم حتى لا يخمد النبي مركز الفتنة والتخطيط، وكانت إحدى الحجج الرئيس لمعارضي الحملة هي شدة الحر، وعدم ملائمة الطقس للقيام بهذه المهمة، فكان تحذير القرآن لهم شديداً: ((وقالوا لا تنفِرُوا في الحرِّ، قُل نَارُ جَهَنّم أشدُّ حرّاً لو كَانُوا يَفْقَهُون))التوبة: 81.
كما كان بعض المعارضين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبّطون النّاسَ عن المشاركة في الحملة؛ وإذ كان الوَضْع لا يحتمل التساهل فقد بعث النبي إليهم طلحة بن عبيد اللّه في مجموعة من المسلمين وأمرَهُ أن يُحرّق البيت على المجتمعين[31].
ومن أجل الإسراع بتجهيز الحملة، حثّ النبي أغنياء المسلمين على تمويلها، وقد أدركت هذه النّخبة الماليّة خطورة الموقف، وشعروا بإحراج وخوف، واستشعرت إرهاصات الانفجار الاجتماعيّ؛ فقامـت بالحفاظ على وضعهم خوفا من أن يتبدل، وكان أبرز المموّلين لها عثمان بن عفان [32].
في هذا الظرف الحساس أُنجز بناءُ المسجدِ، وعشيّة خروج النبي لتَبُوك قدم إليه بُناته مستغلين انشغاله وأنهم يمكن أن يلبسوا عليه الامر، وطلبوا منه المجيء ليصلّي في مسجدهم؛ وقد علّل بُناة المسجد سبب بنائه بأنّـه للضعفاء منهم، وأهل العلّة في اللّيْلَة الماطرة، ولكن النبي يدرك مدى خطورة الوضع، وحقيقة توجهات بُناته، فاعتذر منهم، قائلاً: ((إنّا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء اللّه))[33]. أمّا لِمَ لم يهدم المسجد كما فعل ببيت سويلم مع وجود هذه الشكوك، بينا قرره هدمه بعيد حملة تَبُوك؟ فهو يعود إلى الأسباب التالية:
أولاً، أراد النبي جمع كافة المعلومات المتعلقة بخطة البناء وخطة الانشقاق، وإنّه كلّف من يراقب له طبيعة النّشاط في المسجد؛ فلما آب من تَبُوك، ونزل بذي أوان –على مشارف المدينة- في طريق عودته إلى المدينة أتاه خبرُ المسجد[34]، أي بكلمات أخرى جاءته معلومات دقيقة عن الأهداف الكامنة وراء بنائه؛ ثانيّاً، لم يرَ فيه خطراً مباشراً على سلطته أو على دعوته لحملة تَبُوك، ففضل التريث بشأنه؛ حتى تتوفر كافة المعلومات لديه. وأخيراً، تعرض النبي لمحاولة اغتيال أثناء عودته من تَبُوك، والراجح أن هذه الحادثة قد لعبت الدور الأهم في قرار إحراق المسجد.
تجمّعت القوات المتجهة إلى تَبُوك، وتوزعت إلى قسمين: القسم الأول مع النبي، وتمركز في ثنيَّة الوَدَاع؛ والقسم الثاني مع عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول، فكانت قوات ابن أبيّ لا تقلّ عدداً عن قوات النبي، فلمّا سار بقواته، تخلّف عنه ابن سلول بقواته، وينقل الطبري قول الحسن البصري إن فيهم جاءت الآية: ((لقد ابتغوا الفِتْنةَ مِنْ قَبْلُ، وقلّبوا لكَ الأمُورَ))[35].
وصل النبي إلى تَبُوك، وهناك عقد اتفاقاً مع يُوحَنَّا بن رُؤبة صاحب أيْلَة [العقبة اليوم]، مقابل إعطاء الجِزْيَة، وأتاه أهل جَرْباء وأذْرُح، فأعطوه الجِزْيَة، مقابل اتفاقات محددة[36]. ثُمّ أقام في تَبُوك بضع عشرة ليلة ـ كما تقول المصادر ودون أن تعين عدد أيام إقامته ـ، ولم يحدث الصدام المسلح مع الروم والعرب المسيحييّن، فعاد إلى المدينة[37]. وفي طريق عودته أمر الجيش بالمسير من وادٍ، وصعد هو طريقاً في أعلى الجبل وكان معه عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان.
اغتنمت مجموعة معادية للنبي هذه الفرصة، فتوجهت إليه، وكان أفرادها متلثمين وحاولوا طرحه من رأس هذه العقبة في الطريق، لكن المحاولة لم تنجح لأن حذيفة لوح أمام وجوه رواحلهم بمحجنة -عصى معوجة -، فأسرعوا بالفرار ودخلـوا بين الجند، فقال القرآن: ((وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)) التوبة: 74، ولا يُعرف أحد مِنَ المشاركين في هذه العملية الفاشلة، لكن توجد رواية تذكر أسماء المجموعة وفيها أفرد من بُناة مسجد الشقاق، فكانت هذه المحاولة تنم عن أن بناة المسجد ادركوا اشياء لم يدونها كتاب السير، وادركوا أيضا مدى خطورة الاتفاق الذى لم يعلنه النبي على المسلمين، ولكن السؤال من أين عرفوا اتفاق النبي رغم أنهم لم يحضروه ولم يعلمهم به النبي؛ أعتقد جزما أن هؤلاء كانوا عملاء للبيزنطيين الروم والمسحيين فى تبوك.
على أي حال تحقق الهدف الرئيس للنبي، وهو نزع فتيل الأزمة الداخليّة، وتجاوز مخاطر وقوع صراع بين المهاجرين والأنصار داخل المدينة، وسيتمكن النبي من تجاوز هذه المعضلات عندما يبدأ بحصد نتائج سياسته التي اتسمت ببعد النظر فور رجوعه للمدينة مع قدوم وفود القبائل العربيّة إليه.
لما اقترب من المدينة بعث فريقاً إلى ذلك المسجد من أجل هدمه قبل دخوله المدينة. وقد كان بُناة المسجد صلوا فيه ثلاثة أيام، فانضاف عامل أخر ـ تفعيل البناء ـ إلى المعلومات الّتي وصلته وهو بذي أوان، ومحاولة اغتياله، والتي نرى أنّها الدافع الرئيس للتخلص من بؤرة الخطر؛ فبعث النبي مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي أو أخاه عامر بن عدي، وضم القرطبيّ والبغوي في تفسيرهما وحشياً ـ قاتل حمزة، بينا أضاف البغوي عامر بن السكن.
ندد القرآن ببُناة المسجد، واتهمهم بأنهم كانوا يخططون لجعل المسجد مركزاً لِمن حاربَ اللّهَ ورسولَه، فقال: ((والّذينَ اتَّخذُوا مَسْجِداً ضِراراً وكُفراً وتفريقاً بين المؤمنينَ وإرْصَاداً لِمن حاربَ اللّهَ ورسولَهُ من قبلُ وليَحْلِفُنَّ إنْ أردنا إلاّ الحُسنى واللّهُ يشهدُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) التوبة: 107.
تقول التفاسير بأن ((إرْصَاداً لِمن حاربَ اللّهَ ورسولَهُ من قبلُ))، أي انتظاراً وإعداداً لِمَنْ حارب اللّه ورسوله، ولم يبحث جمهور المؤرخين ولا المفكرين تعبير القرآن (إرصاد) واكتفوا ربما رغبة أو رهبة بإدخال الناس إلى متاهات القصص، ولكن قطعوا بان المقصود بالآية أبا عامر الرّاهب؛ فمن هو أبو عامر الراهب؟
أبو عامر الراهب
أبو عامر الرّاهب لقب لعبد عمرو بن صيفيّ الّذي كان يعيش في المدينة قبل الهجرة النبويّة وهو ينتمي للأوس أو للخزرج؛ ولُقّبَ بالرّاهب لأنّه كان يلتزم سلوكاً زهديّاً، مما حدا ببعض المؤرخين لاعتباره مسيحيّاً؛ مع أنّه لم تُوجد دلائل على حضور المسيحيّة في يثرب.
أعتنق أبو عامـر الرّاهب المذهب الدينيّ ذا الطابع التوحيديّ ـ الحنيفية ـ؛ وتوجد معطيات تسمح لنا بافتراض أنّ الحنيفية مذهب نشأ تحت تأثير المسيحيّة، دون أن تكون المسيحيّة منبعه الوحيد؛ ولأنّ المؤرّخين كانوا يفتقدون للثقافة اللاهوتيّة التي تسمح لهم بتصنيف الأديان والمذاهب فإنّهم اعتبروا أبا عامر مسيحيّاً عن غير حقٍ، وعلى الرغم من أنّه وصف نفسه حنيفياً.
يعتقد " جيب " بأنّ كلمة حنيفي ذات جذر سرياني، فقال إن السريان كانوا يعتبرون الأحناف وثنيـين، استناداً إلى الكلـمة السريانية حَنفُو (أي وثني)؛ ونجد في القاموس السرياني: حَنُفُتوا (وثني، كافر)، حَنفُويْت (بوثنية)، حَنفُوتو (وثنية، إلحاد)، حَنِف (يوثن، يجعله وثنياً)[38].
وتعزز رواية أخباريّة هذا الفرض، إذ تفيد هذه الرّواية بأنّ وفداً مسيحيّاً قدم على النبي في عهد الدّعوة المكيّة، وتقول الرّاوية إنّ الوفد جاء من الحبشة، ورواية أخرى إنّه جاء من نجران[39]. والرّاوية إنْ صحت فإنّها تشير إلى علاقة مبكرة بالحبشة تعود لوجود قواسم دينيّة مشتركة، وربّما كان الوفد يقوم بجولات تبشيريّة، أو زيارات رعويّة لأتباع الديانة المسيحيّة أو لِمَنْ يُعتقد أنّه يقع ضمن دائرة الأتباع؛ وهذا ما يفسر ـ برأينا ـ سبب اختيار النبي الحبشة مقصداً لهجرة المسلمين الأوائل.
كان ثمّة تطورات اجتماعيّة خلقت الحاجة إلى شكلٍ دينيٍ توحيديٍ، وقد فشلت المسيحيّة في تلبية الحاجات الروحيّة ـ مثلها في ذلك مثل اليهوديّة ـ، ولهذا عجزت على اختراق مجتمعات الجزيرة العربية إلاّ في حدود ضيقة. وعندما تكوّنت الحنيفية برزت شخصيّات عبّرت عن هذا التوجه الديني الجديد؛ فكان منهم في مَكَّة زَيْدُ بن عَمْرو بن نُفَيل، الّذي كان يقول: ((إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم))، وهناك روايات تتحدث عن جولات كان يقوم بها، وأنّه تعرّف على معالم الديانتين اليهوديّة والمسيحيّة، وقد تُوفي قبل الدعوة الإسلاميّة بحوالي خمس سنوات في أثناء هذه الجولات، وربّما يجب دراسة دوره ـ ودور الحنيفية ـ في تهيئة الجو الديني في مَكَّة من أجل استقبال الإسلام.
كان أبو عامر ينتسب إلى هذا التيار، وكان يتمتع بنفوذ معنوي في قومه وهذا يعود لمكانة اجتماعيّة لم تحددها المصادر التاريخية؛ ولكن الاستقراء يشير أنه ارتبط بعلاقة ما مع الدولة البيزنطية والامراء المسيحين في الشام، مما أعلى من شأنه في يثرب قبل الهجرة، وفي الحقيقة لم يكن يضاهي نفوذه إلاّ نفوذ ابن خالته عبد اللّه بن أُبّيّ ابن سلول[40]، الَّذي رشحه اليثاربة ليصبح زعيمهم الأوحد بعد أنْ أنهكتهم الفوضى الاجتماسيّة، وغياب الأمن فيها بسبب من افتقاد المجتمع اليثربي لمؤسسات سياسيّة تدير شئونه وتنظم حياته.
بعد هجرة النبي إلى المدينة (622 م) جرى لقاءٌ بينه وبين أبي عامر، وقد وصلنا نصٌ مجتزأ من الحوار:
ـ أبوعامر: ما هذا الذي جئت به؟
ـ النبي: جئت بالحنيفية، دين إبراهيم.
ـ أبوعامر: أنا عليها.
ـ النبي: إنك ليست عليها.
ـ أبوعامر: بلى، إنّك أدخلت يا محمّد في الحنيفية ما ليس فيها.
ـ النبي: ما فعلت، ولكنّي جئت بها بيضاء نقية[41].
يتبين من الحوار إنّ النبي حاور أبو عامر باعتباره ممثلا اتجاه ديني لديه استعداد أولى للإسلام، وعندما لم يتمخض الّلقاء عن اتفاقٍ صار الخلاف حتميّاً، إذ كان كلُ واحدٍ منهما يرى نفسه ممثل الاتجاه الصحيح للحركة الحنيفية، ومما وسع شقة الخلاف أن نفوذ أبي عامر أصبح مهدداً من قِبل نفوذ النّبيّ المهاجر. وبهذا خرج أبو عامرٍ من هذا الّلقاء ـ هذا إذا لم يكن ثَمَّ لقاءات أخرى ـ وهو يرفض الاعتراف بشرعيّة النبي ـ كما يتضح من الحوار.
ما يثير الانتباه هو قول أبي عامر للنبي: ((لا أجد قوماً يقاتلونك، إلاّ قاتلتك معهم))، فماذا كان يقصد به؟
بعد انتصارُ بدر (2 هـ/624 م)، والّذي غيّر من تركيبة الخريطة السياسيّة للمدينة، مع توطد سلطة الدولة المحمدية فيها على حساب مواقع مناوئيه اليثاربة ـ وهم عموماً أصحاب النفوذ السابق وزعماء القبائل فيها ـ قرر أبو عامر الالتحاق بمَكَّة حيث قريش ـ الأعداء الرئيسيون ـ، وخرج معه خمسون شاباً من الأوس، وبعض الرّواة يقولون خمسة عشر[42]؛ وبذلك أخذت معاداته منحاً حاداً، ولهذا القرآن ((فاسقاً))[43].
أمّا عبد اللّه بن أبيّ، الَّذي لم يكن في وسعه إيقاف حركة اعتناق الدِين الجديد فقد قرر اعتناق الإسلام ظاهرياً، من أجل التغلغل وسط المسلمين في المدينة، وإن بقي على عدائه العملي للإسلام؛ متخذاً بذلك أسلوب العملاء والجواسيس من الداخل، والتي ستعرف في التاريخ الإسلامي باسم النفاق.
عندما قرّرت قريش الثأر لهزيمتها في بدر، اشترك أبو عامر معهم في معركـة أُحد (3 هـ/625 م)، لأنّه كان قد توعّد النبي، قائلاً له: ((لا أجد قوماً يقاتلونك، إلاّ قاتلتك معهم))[44]. وشاركه خمسون رجلاً من قومه ويبدو أنّهم أولئك الذين خرجوا معه، أو ربّما آخرون التحقوا به، فكان أوّل من اصطدم بجيش المسلمين في الأحابيش وأرقّـاء مَكَّة [45].
حاول أبو عامر قُبيل المعركة التأثير على الأنصار، لكنّه فشل في مسعاه وسمع منهم كلاماً مقذعاً، فقال: ((واللّه لقد أصاب قومي بعدي شر))؛ ومع ذلك حقّق بعض ثأره من النبي فقد أُتهم بالتسبب بجـرح وجه النبي، وكسر رباعيته اليمنى، والسفلى، وجرح شفته السفلى لأنّه قام بحفر حفر فيما بين الصفين ليقع فيها المسلمون، فوقع النبي في إحداهنّ[46].
بعد أنْ نجح النبي في فتح مَكَّة (8 هـ/630 م)، وألحق هزيمة نكراء بهَوازِن في موقعة حُنَيْن غادر أبو عامر الجزيرة العربيّة إلى الشام، وتشير الرّوايات أنّه طلب معونة البيزنطيين لمحاربة المسلمين، والمؤكد إنّه لم يجد ولم يكن يتوقع من البيزنطيين غير ملاذٍ له، إذ ليس ثمّة ما يدلّ على أنّ البيزنطيين حاولوا أن يُورّطوا جيوشهم في صحراء الجزيرة العربيّة، ولكنهم عمدوا إلى تنشيط كل الخلايا النائمة داخل الجزيرة وخاصة في المدينة ونشط على أثر ذلك حركة الطابور الخامس التي عرفت باسم " حركة المنافقين".
من الشام شرع أبو عامر يتصل ببعض رجال المدينة، وقد تمكن فعلاً من استمالة بعض الأنصار إليه؛ فطلب منهم أن يتخذوا له مركزاً دعويّاً، وربما ليكون معقلاً لأنصاره في المستقبل، وتقرر أن يكون هذا المركز مسجداً.
يعود نجاح أبي عامر في تحقيق هذا الاختراق المتأخر إلى عاملين:
أولهما، وهو الأهم المناخ المتوتر في المدينة والّذي سبب للنبي جملة من المعضلات السياسيّة وقد وصلت ذروتها في محاولة اغتياله، فساعدت هذه الظروف أبا عامر على اكتساب بعض الأتباع، ولقيت نداءاته للتمرّد أذناً صاغية من قِبل بعض الأنصار.
ثانيهما، هو طبيعة مجتمعات الجزيرة العربية والتي تتسم بالتشظي، فكان السبب المباشر الذي حفز بناء المسجد ـ المركز ـ هو قيام بنو عمرو بن عوف ـ من الأنصار ـ ببناء مسجد قباء، وطلبوا من النبي القدوم إليهم ليصلي في مسجدهم؛ فأشعل ذلك نار الحسد في بني عمومتهم بني غنم بن عوف، وقرروا بدورهم في حمّى المنافسة بناء مسجد [47]، ووافقـوا أيضاً على جعل المسجد مركزاً لأبي عامـر في حال قدومه. والجلي هنا إنّ قرار بُناة المسجد بجعله معقلاً لأبي عامر في حال مجيئه هو رغبتهم في إضفاء بعدٍ مقدسٍ على مكانهم، ويستطيع أبو عامر بوصفه حاملاً لصفة " الحنفي" أنْ يمنح مسجدهم القداسة في مواجهة البعد المقدس لمنافسيهم ـ بُناة مسجد قباء ـ، الَّذين تلقوا مباركة النبي.
ولكن للخطة أبعاد أخرى أكثر جذرية من كل ذلك؛ فبعد فتح مكة واستكمال النبي لخطة ضم الحرم المكي لحياض الإسلام، اقتربت لحظة إعلان الوصية، وهذه اللحظة افزعت الكثيرين، حيث أن استكمال رسالة الاسلام بعد النبي بالوصي يقطع عليهم الطريق والأمل في اختراق الدين والوصول الى طبقة الحاكمة بعد النبي، وهنا كانت اللحظة المناسبة حتى يستجمع البيزنطيين كل جمهور الغاضبين والطامحين والعملاء في صف واحد يقتلون النبي محمد قبل الاعلان، وبهذا يتسنى لهم استكمال خططهم وهدم الدين، وكانت الإجراءات الاحترازية اسبق منهم إذ عمد النبي إلى ترك فارسه وقائد جيشه واعلان الوصية على الملا حين قال له " انت منى بمنزلة هارون من موسى" في اشارة لوصية موسى لهارون حينما ذهب يناجى ربه...
هذه خلفية بناء المسجد، والذي تحوّل بعد ذلك أنقاضاً، وصار مكباً للنّفايات بأمرٍ من الله. وبذلك يكون أبو عامر ـ الجاسوس ـ قد فشل في آخر مساعيه لتقويض سلطة النّبيّ الحنيفي، فمات في المنفى الاختياريّ في قنسرين، أو في الحبشة عند النجاشي[48]. وتتحدث الأنباء عن أنّ موته كان سنة تسع أو عشر هجريّة[49].
وقد أساء أبو عامر تقدير موازين القوى في المدينة، وكان على ما يبدو يتجاهل انتصارات الحركة الإسلاميّة الأخيرة، وأنّه أمام نبي وليس زعيم سياسي فقط، وتوحي شكل المحاولة ـ مسجد للضعفاء ـ عن أنّ أبا عامر- ومن ورائه- أراد التوجه لنفس القاعدة الاجتماعيّة الّتي كان يتوجه إليها النبي في الفترة المكّيّة، لكنّ محاولته جاءت متأخرة زمنياً وخارج البيئة بعد أن تمكّن النبي من استنهاض مجتمع المدينة، وتوحيده في مسار لبناء المجتمع المتماسك.
أسماء بُناة المسجد:
1- خذام بن خالد، ومن داره أُخرج المسجد (من بني عمروبن عوف).
2- ثعلبة بن حاطب[50].
3- معتِّب بن قُشَير (من بني ضبيعة بن زيد).
4- أبو حبيبة بن الأزعر (من بني ضبيعة بن زيد).
5- جارية بن عامر، وابناه: 6 ـ مُجَمِّع، 7 ـ زيد [51].
8- نَبتل بن الحارث (من بني ضبيعة).
9- بَخْرج (من بني ضبيعة).
10- بجاد بن عثمان (من بني ضبيعة)[52].
11- وديعة بن ثابت.
12- عبّاد بن حُنَيف[53].
ينفرد القرطبي بذكر: عباد بن الأزعر[54]. وقد صلى بهم مجمع بن حارثة [55].
ولكن الحقيقة أن تلك الأسماء كلها أو اغلبها منحولة وغير حقيقة وبقي الطابور الخامس والمنافقين غير معروفين لأنهم بعد وقت أصبح أغلبهم له سلطة الحكم في الدولة التي اعقبت انتقال النبي.
اضف تعليق