ما يهمنا هو دور الرأي العام، فاذا افترضنا ان الجمهور يعارض الحرب لأنه يخشى ان تؤثر على مصالحه، فكيف يمكن ان يكون الامر لو استطاع القادة السياسيون اقناع جمهورهم بان هذه الحرب ستنفعه أكثر مما تضره؟...
تقدم الكثير من الدراسات السياسية نظريات حول أهمية تعزيز النظام الديمقراطي كوسيلة للخلاص من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تصيب دول العالم، وتعد الحرب من بين اهم تلك المشاكل المزمنة، اذ يتم تقديم الديمقراطية على انها قارب النجاة نحو السلام.
الفكرة الأساسية للسلام الديمقراطي، تتمثل بان القرار النهائي يكون للجمهور في مختلف القضايا، ويعد الاستفتاء هو النافذة الأساسية لإعطاء الشرعية للأحزاب والشخصيات السياسية، كما ان بعض الدول تضع الاستفتاء كوسيلة لحسم القرارات المصيرية، وبما ان الجمهور في الدول الديمقراطية على درجة عالية من الوعي فانه سوف يمنع انتشار الحروب لأنه يعلم الاثار السلبية لها.
حاول الفيلسوف عمانوئيل كانط ان يثبت ان انتشار الديمقراطية يسهم في الغاء الحرب، ورأى بشكل عقلاني ان الجمهور سيكون حذرا جدا جدا من تأييد الحرب، لأنه (الجمهور)، الاكثر احتمالا لان يعاني من التأثيرات المدمرة، وبالتالي سيعمل القادة بطريقة مقيدة ويميلون الى الامتناع عن الحرب بسبب القيود المحلية، وبحسب كتاب (مبادئ العلاقات الدولية) لكارين منغست وايفان اريغون، اضيفت تفسيرات اخرى الى فرضية السلام الديمقراطي التي روج لها كانط، ربما الديمقراطيات هي ببساطة اكثر رضا بالواقع ولا ترغب بالتغيير، وربما هي اكثر احتمالا لان تتحالف مع بعضها لأنها تتشارك بالقيمة نفسها، والكثير من هذه الافكار وحدت صدى لدى وودرو ولسن، احد اكبر المدافعين عن السلام الديمقراطي.
طور الباحثون السياسيون اجندة بحث واسعة، مرتبطة بنظرية السلام الديمقراطي، بحسب ما يذكر المؤلفان كارين ارمنغست وايفار اريغون، وطرحت العديد من الاسئلة مثل: هل الديمقراطيات أكثر سلاما من الدول غير الديمقراطية؟ وهل فرص الحرب بين الدول الديمقراطية اقل منها في الدول غير الديمقراطية؟ وهل تحارب الدول الديمقراطية تلك الاستبدادية أكثر مما تحارب فيما بينها؟
كانت نتائج الدراسات السياسية متباينة جدا، ولم تحصل على اجابة واضحة، وربما كانت منحازة وتريد تأكيد شيء معين تقنع به نفسها والاخرين.
ما يهمنا هو دور الرأي العام، فاذا افترضنا ان الجمهور يعارض الحرب لأنه يخشى ان تؤثر على مصالحه، فكيف يمكن ان يكون الامر لو استطاع القادة السياسيون اقناع جمهورهم بان هذه الحرب ستنفعه أكثر مما تضره؟
يقودنا هذا الافتراض الى دور وسائل الإعلام واليات ترتيب أولويات الجمهور، او ما يتعلق بتأطير الاحداث وصناعة الواقع، ففي النظام الديمقراطي تنمو الدولة بشكل كبير وتزداد الحياة تعقيدا، وفي ظل الحرية التي يتمتع بها الفرد تترتب عليه أعباء ايضا، فهو يحتاج الى ان يعتمد على نفسه بشكل اكبر، ويجب عليه ان يعرف كل ما يجري حوله من الاحداث حتى يستطيع الحفاظ على حريته واتخاذ القرارات الصائبة.
تنشأ هنا مؤسسات أخرى تساعد في فهم تعقيدات الحياة، وظيفتها الأساسية كشف ما يجري، وتجمع كل المعلومات وتختزلها لتقدم للجمهور الأهم منها، ويطلق على هذه المؤسسات اسم "وسائل الاعلام" وبمرور السنوات يتعود الجمهور على هذه المؤسسات ويعطي لها سلطة رمزية كبيرة، حتى اطلق عليها في الولايات المتحدة ودول غرب اوربا اسم "السلطة الرابعة".
وكلما تعقدت الحياة ازداد اعتماد الجمهور على وسائل الاعلام، وينحدر بعدها الى عنصر تقوده هذه المؤسسات بدل ان يتمتع بحرية خياراته في المجالات السياسية والاجتماعية، فوسائل الاعلام مخترقة من قبل كبار الساسة ورجال الاعمال وتتحول الى مروج لأفكارها بدل ان تكون وسيلة لنقل ما يجري على ارض الواقع، حتى أصبحنا امام مقولات من قبيل ما بعد الواقع، او تصنيع الواقع، والجمهور يزداد انقيادا للواقع المصنوع من قبل كبار رجال المال والسياسة.
عندما تنتزع وسائل الاعلام عملية اتخاذ القرار من الجمهور يغريها ان تقوم بأدوار كبيرة تخذم مصالح معينة بعيدة عن مصالح الناس، مثل الترويج للحرب، باعتبارها وسيلة لزيادة رفاهية الجمهور، وبينما ينشغل الناس بأعمالهم لتصنيع المنتجات، تنشغل وسائل الاعلام بتصنيع الأعداء وهؤلاء يجب التخلص منهم عبر مختلف الوسائل ومن بينها الحرب.
فالجمهور يرى في العدو خطرا على مصالحه الملموسة، وبالتالي يجب القضاء عليه حتى يحافظ على مصالحه الفردية والجماعية، من هنا نفهم كيف تم اقناع الجمهور الامريكي بحروبه على مر القرن الماضي والحالي، وذلك اما بحجب المعلومات تماما مثلما حدث في غزو غرينادا عام 1983، او بتركيز كل وسائل الاعلام على فرضية اساسية وهي "كيفية صنع عدو ومن ثم القضاء عليه"، ليشعر الجمهور الديمقراطي بالرضى، ولا تبقى لديه اية وسيلة لمعارضة الحرب.
لوسائل الاعلام دور كبير في المجتمعات الديمقراطية، وهي المحرك الأساسي للراي العام، وبالتالي فان الحكومات الديمقراطية تقوم بعملية التفاف ذكية لسحب الجمهور الى ساحة معقدة تجعله يستسلم لها، وهي تشبه كثيرا الحكومات الديكتاتورية باحتكارها صناعة القرار لكن بطرق تقليدية مباشرة بدل الالتفاف والتعقيد الذي تمارسه الدول الديمقراطية. فالراي العام مسلوب الإرادة في اغلب الأحيان، وقرار الحرب او السلام يمثل إرادة اللوبيات المسيطرة على مختلف قطاعات الدولة وليس الراي العام.
اضف تعليق