إن التفكير بطريقة التبرير المبسّط الساذج ينمّ عن أمرين، أما الغباء والبلادة، أو الاستهتار والاستخفاف بقدرات وإمكانات المجتمع العراقي، لذلك فإن النخبة السياسية مطالَبة اليوم بقوة أكبر ومن دون تردد أو تأخير، بالصعود إلى مستوى وعي الناس وتعديل المنهج السياسي والإداري بذكاء وحرص كبيرين...
يقول معظم المفكرين والعلماء المختصين بتاريخ الأمم والشعوب، أن النخبة السياسية بكل ما تظهر عليه من سمات ومواصفات، ما هي إلا نتيجة أو حصيلة مطابقة لطبيعة المجتمع وسماته، فإذا كان المجتمع واعيا مثقفا أنتج نخباً من نفس النوع، ويصح العكس أيضا، فإذا تدنّت وتدهورت الثقافة والوعي في شعب ما، فلا يمكن أن نتوقع أنه سوف ينتج نخبا ذكية متطورة.
فهل يعني هذا أن فشل نخبة معينة سياسية أو سواها، هي نتاج مجتمع غير متميز في الوعي والثقافة والتعاطي الجيد مع الحياة؟، إذا سلّمن بما يقوله المختصون من أن الطبقية السياسية نتاج المجتمع، فالجواب عن السؤال سيأتي بالإيجاب وليس النفي، ولكن ماذا يقول أصحاب هذا الرأي إزاء ما أظهره الشعب العراقي من تفوّق على نخبته السياسية؟.
وهل هناك من يعترض على أن العراقيين كمجتمع باتوا يتفوقون على السياسيين؟، خصوصا بعد أن بدأ الشارع الجماهيري في العراق يطرح الكثير من المشاريع والبدائل التي تضمن حقوق المجتمع وتحث الطبقة السياسية إلى الاستجابة لها والسعي إلى تطبيقها؟، وما جرى في السنوات الأخيرة، ويحدث الآن أيضا من احتجاجات شملت معظم مدن العراق، هو الدليل على أن المجتمع العراقي يتحلى بسمات قد تفوق سياسييه.
البعض يستكثر على العراقيين مثل هذه التحليلات، ويعدّها مجافية للحقائق أو الوقائع، وينظر إليها على أنها نوع من المجاملة الشكلية للمجتمع العراقي، وهذا البعض يتهم من يذهب إلى هذه الرؤية بأنه يميل إلى المبالغة، ويهدف إلى مجاملة الجمهرة العراقية، لكن مثل هذه التقولات فيها الكثير من التجني، خصوصا أنها قد تصدر من أناس غير حياديين أو أنهم أدوات في يد الطرف الآخر.
من يغيّر بوصلة الأحداث؟
وكلنا تابع أو عايش وراقب واستخلص ما يمكن أن نضفيه على العراقيين من صفات وسمات ومزايا أو أخطاء، لكن بالنتيجة لا يستطيع أحد أن يغض الطرف ويغيّر بوصلة الأحداث إلى اتجاه يجافي الحقيقة، فما جرى سابقا، وما يجري اليوم على الساحة العراقية يثبت بطريقة حيادية أن المجتمع العراقي قد تفوّق على نخبته السياسية، بما طرحه في الاحتجاجات السابقة والحالية بشكل خاص.
فقد تدرّج سقف المطالبات من الأدنى إلى الأرقى، فبدأت الاحتجاجات بالمطالبة بالكهرباء والماء وتحسين وتوفير الخدمات الأساسية، وهو أمر صحيح وحدث بالفعل، وقد اتخذ البعض من هذه المطالبات بأنها مثلبة على الشعب، لأن هذه الأمور تمثل حقوق وليس طلبات كمالية، فأبسط شعوب العالم تتوفر لها الخدمات الأساسية وأن أكثر الحكومات عجزا وتراجعا تتصدى وتوفر هذه الخدمات كتحصيل حاصل، ولا تمثل مكسبا أو تميزا للحكومة.
وهذا رأي يقترف كثيرا من الدقة، لأن الحكومات الناجحة المتميزة هي التي تقوم بأعمال استثنائية وليست عادية، فما بالك بالحكومة التي تعجز عن تحقيق حتى المتطلبات العادية لشعبها؟ وهو ما حدث ويحدث في العراق، حيث تكررت المطالبات في سنوات سابقة وبدأت هذه السنة أيضا بوجوب توفير الخدمات الأساسية، ولكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فسرعان ما ارتفع وتصاعد سقف المطالبات إلى أكثر من ذلك ليصبح ذا طابع آخر لا ينحصر بالخدمة الأساسية، وإنما تعدّاها إلى الإصلاح وتعديل الدستور وغير ذلك مما أفرزته الاحتجاجات مؤخرا، وهذا مؤشر على تفوق وعي المجتمع، لاسيما شريحة الشباب التي طبعت بطابعها حركة الجمهور في الوقت الحالي.
هل هناك مغالاة في مثل هذه التحليلات والآراء التي تقول بتجاوز المجتمع لنخبته السياسية؟، بالطبع نحن نحتاج إلى التأني والدقة في مثل هذه الإجابات ولابد من توخي سلامة الطرح ودقة الإجابة، لأننا نمرّ اليوم بمرحلة حرجة وما أكثر لحظاتنا ومنعطفاتنا الصعبة!، ولا نريد أن نصنع حساسية بين الحكومة والناس، أو بين طبقة الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية وبين المجتمع العراقي، لأن مثل هذه التضادات لا تصب في صالح طرف أو أحد ما.
ارتفاع الخط البياني للوعي
لكننا كعراقيين نعمل في مجال الرأي وصياغته وترويجه، نسعى لتوثيق الحقائق بحسب وجهات نظر قد تصيب وقد تخطئ، ولكن انطلاقا من الحرص والإسهام الواجب بدلا من الصمت أو الوقوف فوق التل والمراقبة غير الفاعلة، ندخل في العمق ونقول ما يدور في الساحة، شريطة أن تكون الدوافع نقية خالية من (الدس) أو العمل لصالح جهات لا ترغب بسلامة العلاقة بين العراقيين ونخبهم القيادية في الميدان السياسي، لذا ننطلق من أهمية إطلاق الرأي السديد الفاعل الدقيق المتأني الذي يبتعد عن التحيّز والميل إلى جهة دون أخرى.
بالنتيجة ما هو مطلوب من الساسة العراقيين الداخلين في النشاط القيادي المسؤول، أن يراقبوا بدقة (الكيرف) أو الخط البياني لنمو الوعي المجتمعي، وتصاعد سلّم المطالبات، وانتقالها من مستوى المطالبة بالخدمات الأساسية إلى مستوى أعلى بكثير، وهو ما يشكل رسائل بالغة الوضوح للنخبة السياسية بأن الوقت قد حان إلى تغيير منهجها الإداري بصورة قاطعة، والتغيير المطلوب في المنهج السياسي ينبغي أن يكون بدرجة كبيرة بما يوازي الوعي المتصاعد للشارع العراقي الذي لم يعد يكتفي بما يحقق له (سد الرمق).
هذه الرسائل المتكررة لا يجب أن تمر مرور الكرام، اليوم على الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية أن تدرس هذه الحالة المستجدة في الساحة بصورة دقيقة ومسؤولة، ولا يصح النظر إليها على أنها موجات احتجاجية موسمية أنتجتها (درجات الحرارة المرتفعة) وأزمة شح المياه، كلا، إن النظر لما يحدث في المدن والساحات رسائل بالغة الأهمية وخطيرة، وليس أما النخبة السياسية سوى الارتقاء إلى هذه الدرجة العالية من الوعي الجماهيري.
نعم هناك جهات داخلية وخارجية متمرسة على الصيد في الماء العكر، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا العذر مدعاة لإهمال رسائل المجتمع العراقي الواضحة والضاغطة، ومن الغباء أن يردد بعض السياسيين مقولة لم تعد صالحة لتحليل أسباب الاحتجاج حيث هناك من يقول بأن الصيف هو سبب الاحتجاجات الحالية التي اجتاحت المدن، وأنها سوف تذوب في اعتدال درجات الحرارة، أو توفير ما يكفي من الطاقة الكهربائية، فالنظر لما يحدث بهذا التبسيط غير صحيح ولا هو ملائم، فأين فرص العمل، وأين العدالة الاجتماعية، وما هو مصير القيم التي تحكم النشاط الإداري البيروقراطي، وكيف نعالج مرض عبودية الدولة؟!.
إن التفكير بطريقة التبرير المبسّط الساذج ينمّ عن أمرين، أما الغباء والبلادة، أو الاستهتار والاستخفاف بقدرات وإمكانات المجتمع العراقي، لذلك فإن النخبة السياسية مطالَبة اليوم بقوة أكبر ومن دون تردد أو تأخير، بالصعود إلى مستوى وعي الناس وتعديل المنهج السياسي والإداري بذكاء وحرص كبيرين.
اضف تعليق