في هذا الصدد من المنظور الغربي لا أمل في أن تتطور تلك المجتمعات لتواكب التطور الفكري والثقافي والحضاري للإنسانية، ووجهة النظر هذه ورغم أنها ذات طابع لا يخلو من الفوقية الثقافية إلا أنها كانت دوما عاملا أساسيا في رسم السياسات الغربية تجاه المنطقة العربية خلال...
ثمة وجهة نظر لدى صناع القرار في الغرب وتحديدا في الولايات المتحدة الأمريكية عن طبيعة المجتمعات العربية؛ مفادها أن الشعوب العربية هي شعوب كلاسيكية يلعب العامل الديني دورا أساسيا في تشكيل ثقافتها، وهي في هذا الصدد من المنظور الغربي لا أمل في أن تتطور تلك المجتمعات لتواكب التطور الفكري والثقافي والحضاري للإنسانية، ووجهة النظر هذه ورغم أنها ذات طابع لا يخلو من الفوقية الثقافية إلا أنها كانت دوما عاملا أساسيا في رسم السياسات الغربية تجاه المنطقة العربية خلال القرنين الماضيين.
وفي المقابل فإنه ثمة جانب من الحقيقة في هذه النظرة الغربية لثقافة المنطقة العربية لا يمكن إغفاله، فنحن في الحقيقة لا زلنا نعيش في كنف ثقافة لحضارة عربية إسلامية انهارت منذ قرون وأصبحت جزء من الماضي.
ولكن أخطر ما تقوم به سياسات الدول الكولونيالية الغربية هو اللعب على تناقضات تلك الثقافة بين الماضي وواقع الحاضر المعاش؛ وتوظيف ذلك سياسيا في إبقاء تلك الثقافة الجمعية حيث هي كجزء من الماضي، وليس أدل على ذلك من الدور الغربي في أحداث الربيع العربي الذى كان له الدور الرئيسي في ما آلت له الأوضاع من نتائج كارثية على جل دول الربيع العربي؛ ورأينا كيف استثمرت تلك النتائج في تعميق النفوذ لتلك القوى الكولونيالية في المنطقة، والتي كانت أحد أهم نتائجه المشروع الأمريكي المقترح لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بما يعرف بصفقة القرن.
وأهم الركائز الأيديولوجية لهذا المشروع تقوم في الحقيقة على إبقاء الواقع العربي القائم ثقافيا وسياسيا على ما هو عليه لأطول وقت ممكن عبر تثبيت هذا الواقع وشرعنته سياسيا عبر اتفاق تاريخي بين العرب وإسرائيل يتنازل من خلاله العرب عن روايتهم التاريخية عن الصراع لصالح رواية الحركة الصهيونية؛ ويدفع الفلسطينيون وحدهم الثمن السياسي فيما يدفع العرب الفاتورة الاقتصادية لهذا الاتفاق كاملة فيما ستدفع الأجيال القادمة لأبناء المنطقة الفاتورة الثقافية والسياسية والاقتصادية والحضارية كاملة لعقود قادمة عندما ستجد أنها أصبحت مجمدة جبريا في الماضي بينما الأمم من حولها قد قطعت أشواطا نحو المستقبل.
إن كسر دائرة الماضي المفرغة التي يدور فيها أبناء الحضارة العربية الإسلامية المنهارة لا يكمن قطعا في الانسلاخ من الثقافة العربية الاسلامية الموروثة بقدر ما يكمن في إصلاح تلك الثقافة وفلترتها والانطلاق بها نحو المستقبل، وهذا منوط بالأساس بفكرة الإصلاح الديني وإعادة بعث حركة التنوير الديني التي كانت قد بدأت في الظهور بداية القرن التاسع عشر، وما لبث أن انطفئ نورها سريعا.
وإعادة بعث حركة تنوير ديني إسلامي يكون بمقدورها الاستمرار والنمو وإحداث النهضة الثقافية مرهون بشرطين أولهما ظهور علماء دين مستنيرين مدركين لحركة التطور في التاريخ الإنساني السياسي والثقافي؛ وعلى احتكاك عملي بثقافة الآخر، أما الشرط الثاني والإجباري فهو الفصل الكامل بين المؤسسة السياسية الحاكمة والمؤسسة الدينية، وهو ما سيعطى الاستقلالية لعالم الدين والتي حرم منها لقرابة 14 قرن. فتدخل المؤسسة السياسية في الدينية مفسدة لها تماما كإقحام الدين في اللعبة السياسية لدى الذين يستخدمون الدين في التغطية على فشلهم السياسي، والحل هو أن يبقى الدين والسياسة كخطين متوازيين يهتدى كلا منهما بالآخر بمنطق العقل والحكمة.
فثمة منطقة ذهبية غير مكتشفة بين العلمانية المتطرفة والدينية المتطرفة، إنها المنطقة العقلانية وحيث ما وجدت العقلانية يوجد التنوير وحيث ما وجد التنوير يوجد التقدم وتبدأ الحضارة في الاستيقاظ من سباتها، ويفتح طريق المستقبل نحو تفعيل العقل النقدي الجمعي باتجاه الثقافة العقلانية والتي ستنتج حتما الدولة العقلانية ذات نظام الحكم الديمقراطي والرشيد.
اضف تعليق