هنالك أدلة حدّدها المختصون عن الدولة الفاشلة، من ضمنها تقليص الحريات ومحاصرتها بقبضة حديدية، عبر نظام سياسي مستبد حتى ولو تظاهر بالنهج الديمقراطي، فكل الطغاة لا يعلنون عن تعلقهم بالاستبداد وشغفهم بقمع الحريات، على العكس من ذلك، الطغاة هم أكثر الحكام كلاما عن الحريات.
هنالك أدلة حدّدها المختصون عن الدولة الفاشلة، من ضمنها تقليص الحريات ومحاصرتها بقبضة حديدية، عبر نظام سياسي مستبد حتى ولو تظاهر بالنهج الديمقراطي، فكل الطغاة لا يعلنون عن تعلقهم بالاستبداد وشغفهم بقمع الحريات، على العكس من ذلك، الطغاة هم أكثر الحكام كلاما عن الحريات.
السؤال هنا، ماذا يعني إعلان اللجنة البرلمانية للاتصالات بأن قطع الإنترنيت ومواقع التواصل عمل متعمَّد، ومن الذي يقف وراء هذا القطع، وما هي الأسباب التي أوجبت هذا العمل، ومن هي الجهة التي ستتحمل الخسائر المادية والمعنوية التي تعرّض لها الأفراد والمؤسسات الإعلامية والمصارف وشركات الطيران، وكل الجهات التي يقوم عملها (رزقها) على الإنترنيت؟.
أجوبة جميع الأسئلة الواردة في أعلاه تبدو معروفة ومكشوفة للجميع، حتى بسطاء الناس يمكنهم الإجابة عنها بسهولة، فمن يقف وراء هذا القطع المتعمَّد بحسب اللجنة البرلمانية المختصة هي الجهات الحكومية المعنية، والناس أيضا تعرف ذلك، أما الأسباب فهي معروفة أيضا، حيث جاء هذا الإجراء الخاطئ بعد أن اشتدّ أوار الاحتجاجات التي اندلعت في البصرة، لتمتد إلى محافظات ومدن الجنوب والوسط، وأخيرا ثمة سؤال يقع في قمة قائمة التساؤلات، من هي الشخصية أو الجهة التي يجب أن تُقاضى وتتحمل الخسائر بشقّيها المادي والاعتباري.
وقبل الاسترسال في العلل والتحليلات والاستنتاج، لابد أن نبحث في مفهوم الدولة وموقعها من النجاح والفشل، فقد ورد في أحد أسباب وَصْم الدولة بالفشل حين تعجز عن توفير الخدمات البلدية لشعبها، حيث تندرج الخدمات البلدية والصحية والتعليمية ضمن قائمة الخدمات الأساسية والتوزيعية، كما تندرج مستلزمات إقامة وإدامة أسس التوافق على شرعية الدولة كراعية لمصالح جميع سكان البلاد وليس مصالح فئة أو فئات معدودة منهم، وبالمقابل لم تعد مسؤولية الدولة ولا شرعيتها محصورة خارجياً في الحصول على اعتراف الأسرة الدولية الشكلي بها.
فالأصح أن لا تستمد الدولة شرعية ديمومتها من خارج حدودها فقط، بل من الأهمية القصوى أن تنطلق شرعيتها أولا من داخل حدودها، أي من شعبها بالتحديد، وفي حال عجزت عن استمداد الشرعية من الشعب، فلا تكتسب وجودها حتى لو اعترف بها العالم أجمع، وقد يحدث مثل هذه الاعتراف الدولي لأسباب نفعية براغماتية لها صلة بالسياسة والتجارة والمصالح على النحو العام.
ولكن متى تشارف الدولة على الاضمحلال، وكيف يمكن أن تُجتَث جذور نظامها السياسي المتهالك؟، بالطبع أول الأسباب وأقواها عجز الدولة عن تقديم الخدمات البلدية، بعد توفير الأمن المحلي والخارجي، والأمن الغذائي والسكن، وحفظ الحقوق وفي مقدمتها الحريات المحمية في الإعلام والفكر والرأي والتظاهر وما إلى ذلك من أركان يرتكز عليها النظام الديمقراطي.
السؤال الذي نود طرحه هنا، هل أرعب الفيسبوك الدولة وأركانها وأولها الحكومة، إذا صح تصريح اللجنة البرلمانية للاتصالات؟، الجواب المستنتَج، لو لم يكن هناك تأثير لهذا الموقع في موجة الاحتجاجات الأخيرة، لما أقدمت الجهة الحكومية المشرفة على الاتصالات بقطع الإنترنيت، فهل يصح لدولة ذات نظام ديمقراطي أن تخشى التواصل بين أفراد شعبها أثناء المحن ومنها (رداءة الخدمات الأساسية في ظل ارتفاع مستمر لدرجات الحرارة، والأمراض، والبطالة، والفساد)؟.
إن مثل هذه الإجراءات التي تحد من حريات الإنسان، وتمارس طوقا من الممنوعات على الشعب، لا يقوم بها إلا الأنظمة الفردية القمعية، وقد تكون هناك حجج تقف خلفها مثل هذه الإجراءات وفي المقدمة منها الحفاظ على الأمن والسيطرة على الاحتجاجات وضبط حركة الشارع، ولكن من غير المنصف أن تُهمَل المسببات، ويتم التعامل مع النتائج فقط!.
والسؤال الأهم هنا، لماذا قامت الاحتجاجات؟، ما المسببات التي دفعت الشباب إليها، ثم لماذا انحصرت أعمار أغلبية المحتجين بين العشرين والخامسة والعشرين؟، ومن الأسئلة الأهم أيضا، لماذا اندلعت شرارتها من البصرة، وشملت محافظات الجنوب ثم التحقت بها محافظات الوسط، هذه الأسئلة يجب أن تجيب عليها الدولة وأركانها ومؤسساتها المتخصصة بهذه الحزمة من الأسئلة، ومنها بل وفي المقدمة منها (السلطة التنفيذية)، بالطبع الأخيرة تعرف الإجابة عن هذه الأسئلة بصورة صحيحة ودقيقة، لكنها قد لا تفعل ذلك، وحتى لو صرّح أحد المسؤولين ببعض هذه الأجوبة، فإن الحلول ستبقى غائبة.
وأخيرا ماذا تصنَّف الدولة التي يرعبها الفيس بوك ومواقع التواصل والإنترنيت، وإذا تمّ عزل الشعب عن العالم، ماذا يمكن أن نسمّي النظام السياسي الذي يقودها؟، سلسلة الأسئلة هذه يجب أن تضعها الدولة نصب أعينها، وإذا أرادت أن تستفيد من هذه التجربة المريرة، تجربة الاحتجاجات وما رافقها من أحداث وإجراءات حريات المتظاهرين وحجب الإنترنيت، عليها أن تدرس هذه الوقائع بعلمية وتمعّن وتركيز، وأن تستفيد من هذا الخطأ الإستراتيجي، نعم إنه الخطأ القاتل الذي يتهدد كيان الدولة كلها، ويحاصر النظام السياسي بالزوال إذا ما بقيت الأمور تمضي على هذا المنوال، لذا ينبغي وضع ما حدث على طاولة التشريح واستنتاج الحلول الناجعة، بعد تأشير الأسباب وتثبيتها بدقة، واستيعاب الدرس جيدا، وعدم إهماله كما تم إهمال الدرس نفسه في السنوات السابقة، وينبغي عدم النظر إليه على أنه حدث عابر سوف يمر مثلما مرّ غيره من أحداث جرت في السنوات الماضية، فهذا الذي حصل في العراق اليوم مختلف تماما عمّا سبق، وربما يكون الدرس الأخير والفرصة الأخيرة لحفظ الدولة العراقية، وضمان بقاء الديمقراطية في هذا البلد.
اضف تعليق