زيادة التلوث وانتشار ثقافة اللامبالاة يكمن في عدم وجود المتابعة والمحاسبة القانونية للمخالفين، فلو أن المصنع الذي يرمي بفضلاته السامة في النهر تتم محاسبته ومعاقبته قضائيا بالتغريم أو الغلق المؤقت، سوف لا يعيد الكرّة ويرمي الفضلات في النهر، وهذا ينسحب على الأفراد أيضا، وبذلك سوف يتم تصحيح هذه الثقافة المعوجّة في السلوك، فالإنسان الجاهل أو حتى من يفهم الخطر ويتجاهل عواقبه...
أيةُ ثقافة، وأيةُ قيم، تلك التي تدفع بالإنسان إلى تدمير نفسه بنفسه؟، ثمَّ هل يعلم من يلوّث مياه الأنهار والأمطار بأن الأذى لا يمس شخصه فقط، وإنما يتعدى هذا الفعل الشنيع إلى غيره من الأشخاص الذين يقاسمونه أرض الوطن، ليس هذا فحسب، فربما لا يعتقد أو لا يظن منْ يلوّث الماء بأن القادمين من صلْبهِ سوف يطولهم الضرر، حين يقدمون إلى الحياة ليجدوها مقفرة قاحلة بسبب أفعال الآباء الطائشة، أو غير المحسوبة، فهل فكرّ الآباء اليوم بالغد وبما سيحصل لأبنائهم من الأجيال القادمة؟.
أي الأسباب تقف وراء هذا الفعل الذي لا يقل خطرا عن فعل الانتحار؟، فالشخص المنتحِر يًقْدِم على شنق نفسه أو قتلها بطرق ووسائل شتى، ومَنْ يلوّث المياه الجارية يقتل نفسه ومن معه ولكن بنحوٍ متدرّج أو بطيء، فالنتيجة هي قتل الذات ولكن بطرائق متباينة، ومن أسباب التلويث الذي ربما يحدث بلا قصدية مسبقة، هو الجهل وفقدان الشعور بالمسؤولية، وسيطرة اللامبالاة على تفكير الناس وسلوكهم، والتكاسل عن السلوك الصحيح والمنتظَم لأنه يحتاج إلى شيء من التعب والأناة.
لكن هذا الجهل تماشيا يتطور مع التراتب الزمني ليصبح ثقافة توجّه سلوك الناس، والطامة الكبرى حين يصبح الفعل الرسمي خاضعا لهذه الثقافة البائسة، ونعني بها اللامبالاة في التعامل مع الجوانب الحساسة في حياة الناس، حينئذ تأخذ المعامل المنتجة للفضلات السامة، والمختبرات الكيميائية، وكل المنشآت التي تفرز فضلات التلوّث، تلقي بهذه المخلّفات في مياه الأنهار كما يحدث هذا في العاصمة بغداد ومصانعها والفضلات التي ترمي بها في نهر دجلة، والمشكلة الأخطر أن نسبة عالية من هذه المعامل رسمية تؤول عائديتها إلى الدولة.
هذا لا يقلل من ثقافة المجتمع وأفراده، فهناك أفراد وعائلات تفعل الشيء نفسه، أي أنها ترمي فضلاتها في الأنهار، ولا ترى في هذا السلوك أي خطأ يُذكر، وإذا اعترض عليهم شخص أو جهة ما من باب التنبيه أو النصيحة، يستنكرون هذا الاعتراض، ويعدّونه تجاوزا على (حرياتهم)، وبعضهم يتفوّه بكلام مسيء وجارح مثل: (وانتش حامي حمامك)، أو (هل النهر ملْك للخلّفوك)، أو (وما دخلك أنت النهر نهر الله).... وهكذا يظن من يرمي فضلاته في النهر بأنه لا يحق لأحد أن يعترض عليه.
حتى المناطق الريفية التي هي أحوج ما يكون لمياه الأنهار من أجل الإرواء والسقي، ليسوا حريصين على نظافة مياه الترع والأنهار، فنجد حتى الحيوانات النافقة مرمية في المياه، في حين أن حياة الناس في الريف تعتمد بشكل كلّي على نظافة مياه الترع والأنهار، لكن مع ذلك هم لا يتورعون عن إلقاء القمامة وأنواع المخلقات السامة والحيوانات الميتة في المياه التي يشربون منها، ويسقون بساتينهم منها أيضا.
سبب آخر أو عامل مساعد على زيادة التلوث وانتشار ثقافة اللامبالاة يكمن في عدم وجود المتابعة والمحاسبة القانونية للمخالفين، فلو أن المصنع الذي يرمي بفضلاته السامة في النهر تتم محاسبته ومعاقبته قضائيا بالتغريم أو الغلق المؤقت، سوف لا يعيد الكرّة ويرمي الفضلات في النهر، وهذا ينسحب على الأفراد أيضا، وبذلك سوف يتم تصحيح هذه الثقافة المعوجّة في السلوك، فالإنسان الجاهل أو حتى من يفهم الخطر ويتجاهل عواقبه، إذا شعر هناك عقوبة تنتظره بسبب تلويثه مياه النهر، فإنه سوف يكفّ عن هذا الفعل إذا تمتْ معاقبته.
نتطرق للتلوث الذي تتعرض له المياه في الأنهار، في الوقت الذي يتكلم الجميع عن أزمة الماء التي تضرب العراق حاليا، لكن هذه المشكلة ليست وليدة اليوم، إنها وليدة أزمنة وأنظمة متعاقبة، وثقافة سلوك بالية لا تزال حتى اللحظة تهيمن على العقول والرؤوس، ولكي يتخلص الناس من المحاسبة المعنوية والاجتماعية والأخلاقية، يلقون اللوم على سد (إليسو التركي)، أو سواه من الذرائع التي تحاول أن تدفع عن الشعب العراقي ثقافته القاصرة تجاه الماء.
نعم سياسات الدولة قاصرة أيضا، ولا توجد لدينا عقول خبيرة تخطط بشكل سليم لكي تستثمر مياه الأمطار الهاطلة بكميات كبيرة على أرض العراق، كل هذا صحيح، ولكن الأصح أن الناس أنفسهم لا يحترمون الماء، ولا يعطونه حق قدره، وهذا بائن بجلاء من خلال التعامل العشوائي الطائش مع هذه الثروة التي لا تقل عن الثروات الأخرى أهمية، وربما هي الثروة الأغلى، لأن النص القرآني يقول (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، فإذا كانت هذه هي قيمة الماء، أليس حريّا بالجميع التعامل بحرص مع هذه الثروة، وإذا كان الإنسان يلقي بالفضلات والمخلفات الكيميائية وسواها في مياه الأنهار، هل يحق لنا أن نشكو من الآخرين ونقول بأنهم يحرموننا من الماء، فالإجراء الأول ينبغي أن يبدأ بنا نحن، وإذا أردنا من الآخرين أن لا يحرموننا من الماء، علينا نحن أولا أن لا نحرم أنفسنا منه، عن طريق رمي المخلفات الملوثة في الأنهار بما في ذلك مياه الصرف الصحي!.
الحلول تنبثق من الأسباب في أعلاه، فمتى ما احترم الإنسان العراقي الماء، وكفّ أذاه عنه، وتوقف عن رمي الفضلات في الأنهار، وتحولت ثقافة السلوك العشوائي المتخلف مع الموارد المائية، إلى ثقافة سلوك حريص متحضّر، حينئذ سنقضى على أزمة المياه التي تسببت في حضر زراعة ثمان محاصيل صيفية في العراق، من بينها أهم محصولين هما (زراعة الشلب أو الرز العنبر، وزراعة الذرة)، وهذا يعني حرمان آلاف العائلات من مصدر رزقها، إضافة إلى حرمان البلد من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وهو ما حضَّ عليه سماحة الإمام الراحل محمد الشيرازي منذ عشرات السنين، كأنه (قدس سره) يستشرف هذه المشكلة الكأداء قبل حدوثها، ووضع لها الحلول الناجعة، بصورة توجيهات قيمة للحكومات المتعاقبة وللشعب أيضا، ولكن بسبب اللامبالاة أهل القادة والمقادين تلك الحلول والمقترحات العلمية القيمة.
أما وقت أصبحنا بين فكي كماشة التلوث المائي وشحة الماء، فهذا يعني أننا بحاجة ذات خطين مزدوجين، الأول أن يعبأ الناس بالثقافة الصحيحة للتعامل مع الموارد المائية (مياه الأنهار) ويكفّوا أذاهم عنها وفضلاتهم، ويتعاملوا بحرص أصيل مع الماء للحفاظ على كمياته ومعرفة قيمته الفعلية، أما الخط الثاني فهو أن تعترف الحكومة بمسؤوليتها وأن تضع الخطط العلمية الكفيلة بالحفاظ على الموارد المتاحة، بالأخص ما يهطل من السماء من كميات أمطار هائلة، بالتناسق مع الجهد الدبلوماسي مع دول الجوار تركيا وإيران وإطلاق الحصص المائية المستحقّة للعراق، ولكن قبل هذا وذاك، لنغيّر ثقافة السلوك الطائش مع الأنهار، ولنحترم الماء، وننظر إليه بالفعل على أنه يجعل من الأشياء والكائنات كلها (أحياء) بمن فيها الإنسان.
اضف تعليق