سحر السلطة، ومغرياتها، وامتيازاتها، فينسى الحاكم نفسه، ويغادر إنسانيته، وينسف مبادئه، ويحنث بعهوده ووعوده، كل هذا يحدث تحت ضغط مغريات السلطة، وتقلّص أو انعدام (سعة الصدر) إلى درجة الصفر، كما حدث ويحدث اليوم في بعض إدارات حكوماتنا الإسلامية والعربية التي تواجه المعارضين لها بالنار والحديد...
لكل عامل منتِج آلة يستخدمها وصولا إلى المنتَج المطلوب، وجاء في تعريف الآلة بأنها (جهاز يستعمل الطاقة ليؤدي عملا ما، فالمصانع تستخدم آلات الثقب الكبيرة، والمخارط، والمكابس لتصنيع المنتجات التي نستخدمها، وتعتمد الأعمال على الآلات الكاتبة، والحواسيب، وآلات أخرى متعددة)، وقد صنع الناس أنواعا مختلفة من الآلات لأغراض مختلفة، فالقدامى صنعوا فؤوسا حجرية لاستخدامها كأسلحة وكعدّة، وأعطت الآلات التي طُوّرت تدريجيًا الناس تحكما أكثر في البيئة المحيطة بهم.
الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، استخدم مفردة الآلة مجازاً في حكمته المعروفة التي قال فيه:
(آلَةُ الرِّيَاسَةِ سَعَةُ الصَّدْرِ).
والرياسة هنا تعني موقع المسؤول الأول في جماعة، أو مؤسسة، أو منظمة، أو دائرة، أو مدرسة، أو دولة وغير ذلك، فهو هنا يمثل الرئيس المسؤول الأعلى في هذه المكونات بمختلف عناوينها ومسمياتها، ولكي ينجح رئيس العائلة، أو الدائرة، أو الجامعة... إلخ، لابد أن يكون له (آلة) يستخدمها وصولا إلى الهدف المطلوب، وهو يتمثل بقيادة مؤسسته بطريقة ناجحة، وآلة جميع الرؤساء بغض النظر عن حجم المؤسسة التي يديرها أو يقودها أي رئيس منهم، هي (سعة الصدر) وفق رؤية الإمام علي (ع)، وسعة الصدر هنا تعني الأسلوب والطريقة والمنهج وكل ما يتعلق بكيفية إدارة المرؤوسين وتنظيم شؤونهم على النحو الأجدى.
متى ظهرت الحاجة للقيادة؟
ومنذ أن تحولت البشرية من عصر الصيد والترحال والعيش العشوائي، إلى التجمعات الصغيرة ومنها إلى الكبيرة، ظهرت الحاجة إلى القيادة، وصار وجود القائد أمرا لا يمكن الاستغناء عنه لدرجة أن الناس تنازلوا عن جزء من حرياتهم للحاكم مقابل إدارته السليمة والعادلة لأمورهم، وهكذا ظهرت الحاجة إلى منح القائد صلاحيات معينة، تعينهُ وتسهّل له إدارة شؤون الجماعة بصورة جيدة، ولكن هذا الهدف، تم تحويله لدى العديد من الحكام إلى استئثار بالسلطة، فكثير من القادة تحوّلوا إلى حكام، والإدارة بدورها تحولت إلى سلطة، وشرعَ الحكّام يستأثرون بالسلطة لتحصيل مصالح ذاتية، فردية، وعائلية، أو فئوية، وشيئا فشيئا تحوّل القائد (المدير) إلى حاكم مستبد، استبدل الإدارة الحكيمة بمنهج الطغيان والقمع.
وقد بحث علماء النفس والسياسة والاجتماع كثيرا وطويلا، في الأسباب التي حدت بالحكام إلا ما ندر منهم إلى الخروج عن شروط الوثيقة، أو ما اصطلح عليها، بـ (العقد الاجتماعي)، حيث نظّمت تلك الوثيقة العلاقة بين الحاكم والمحكوم بصورة متوازنة وألزمت الحاكم (الرئيس، القائد)، أن لا تخرج صلاحياته عمّا حددته وثيقة العقد الاجتماعي، وكل هذه التحديدات لا يمكن لأي حاكم الالتزام بها إلا عبر (آلة) سعة الصدر، وهي تتكفل بجعل الحاكم طويل الأناة، حكيما، عادلا، يستوعب شعبه ولا يفلت منه عنان أو عقال السلطة، لذلك أوجز الإمام علي (ع) مهمة هذه الآلة بـ (سعة صدر) الحاكم، التي تقيه مغريات السلطة، وفي نفس الوقت تحمي الشعب من شرورها.
ومن أقوى وربما أكثر الأسباب التي تقف وراء إفلات السلطة من الحكام، عدم التزامهم بوصية الإمام (ع)، فيأخذ بهم ذلك باتجاه أبشع أساليب السلطة ضد الشعب، ألا وهي (القمع والاستبداد)، وبدلا من أن يكون الحاكم، المسؤول، الرئيس، القائد، واسع الصدر، رحيما بشعبه، عادلا، مستوعبا الجميع، يتحول إلى وحش، يمسك بيده فأس السلطة، فيبدأ يهشم رؤوس المعترضين على منهجه في السياسة والإدارة والفكر، ويبقى أفراد جميع الشعب مهدَّدين بهذا الفأس، إلا من يبلع لسانه، ويغضّ طرفه، ويقف مع الباطل، من أجل مصلحة مادية أو خوفا من البطش.
القمع كوسيلة لبعض الحكام
ومن الأسباب أيضا سحر السلطة، ومغرياتها، وامتيازاتها، فينسى الحاكم نفسه، ويغادر إنسانيته، وينسف مبادئه، ويحنث بعهوده ووعوده، كل هذا يحدث تحت ضغط مغريات السلطة، وتقلّص أو انعدام (سعة الصدر) إلى درجة الصفر، كما حدث ويحدث اليوم في بعض إدارات حكوماتنا الإسلامية والعربية التي تواجه المعارضين لها بالنار والحديد، ولدينا من الأدلة التي لا تزال ساخنة حتى اللحظة، على استخدام القمع مع المتظاهرين سلميا، احتجاجا على نقص الخدمات في العراق، فلا يجد حكامنا سوى القمع وسيلة لمواجهة من يعلن رأيه ويطالب حكومته بتحسين الخدمات وخصوصا الكهرباء، وبدلا من استيعابهم، يتم الزجّ ببعض المتظاهرين ومنهم طلبة في السجن، فتقلّصت بذلك سعة صدر الحاكم المسؤول إلى الصفر، ليتعامل بمنهج الاستبداد والقمع مع الناس وهم يطالبون ببعض حقوقهم الأساسية لا أكثر.
أما حكمة الإمام علي عليه السلام، فهي ترى عكس ذلك وتنصح الحكام القادة المسؤولين، بالتعامل وفق (آلة) ومنهج ومبدأ (سعة الصدر) واحتضان جميع أفراد الشعب، وفهم مطالبهم، ومراعاة حقوقهم، والتعامل معهم بمنهج الرحمة لا بالقمع والحبس واستخدام أساليب العنف، علما أن الكثير من هؤلاء الحكام يعلنون التزامهم بمبادئ الإمام علي (ع)، والسير بمنهجه في إدارة السلطة، ولكن لم يتحقق شيئا من هذه الأقوال في الواقع التطبيقي، فمن هو الخاسر في هذه الحالة يا تُرى، هل يخسر الشعب أم الحاكم؟ منطق التاريخ وتجاره السياسية تؤكد أن الحاكم هو الخاسر وليس الشعب.
نعم بالطبع الخاسر يعرف نفسه، وعليه أن يتخذ الخطوات الكفيلة بتصحيح منهجه في إدارة السلطة، وعليه أن يتذكر دائما، بأن آلة الرياسة هي (سعة الصدر) ولا شيء غير ذلك، والحاكم أو الرئيس يعرف تماما ماذا تعني (سعة الصدر)، وما هي الكيفية التي يتعامل بها أو من خلالها مع المناوئ أو المعترض، وكيف يحترم ويراعي حرية الرأي والفكر والإعلام، وكيف يحمي حقوق الناس قبل أن يحمي ويضاعف مصالحه الخاصة والعائلية والحزبية وأمثالها، هذا إذا كان مؤمن فعلا وقولا بمنهج الإمام (ع)، الذي يعلن انتماءه إليه.
هذه هي الطريقة الوحيدة، والمنفذ الوحيد للحاكم/ الرئيس، كي يتحاشى الانزلاق في وباء القمع والاستبداد، والجميع يعرف ماذا تعني (سعة الصدر) وماذا يعني بها الإمام علي (ع)، إنها تطالب الحاكم المسؤول، بأن يسع صدره الجميع بلا استثناء، وأن يكون هو صاحب القدرة الأكبر من بين الجميع في تحمّل الآخرين، حتى المعارضين، بل كان الإمام علي نفسه، يعطي للمعارض أكثر من حقوقه ويستوعبه حتى لو كان على خطأ، أما بعض حكامنا اليوم، فلا يتحملون الناس حتى في مطالباتهم الصحيحة وحقوقهم المستلبة، لذا يأمل الشعب من الرئيس، المسؤول، القائد، الحاكم، أن يتحلى بـ (سعة الصدر) في إدارة السلطة، كما ينصح ويوجّه إمامنا علي ابن أبي طالب عليه السلام.
اضف تعليق