كيف يمكن أن نرسخ ونطور ثقافة الترشيد لدى الفرد والمجتمع، فهذا الإجراء لا يمكن أن يتحقق بين ليلة وضحاها، ولكن ينبغي أن تكون هناك بداية فعلية تطبيقية لهذه الثقافة ونشرها بين الناس، يتحمل مسؤولية ذلك، الإعلام أولا، والمؤسسات والمنظمات الثقافية، حتى المدارس لها حصتها من هذه المسؤولية التثقيفية، كذلك المؤسسات الرسمية المعنية بهذا القطاع، فهذه الوزارة ومؤسساتية يقع عليها جانبا من عبء التثقيف والتوعية الترشيدية لاستهلاك الطاقة الكهربائية...
تعني مفردة ترشيد على النحو العام، الاستخدام الصحيح أو الجيد للموارد المتاحة للفرد أو الجماعة أو المؤسسة وصولا إلى الدولة، وخلاف الترشيد الإسراف والبذخ المتعمَّد والتبذير، وقد جاء في القرآن الكريم (إن المبذرين كانوا أخوان الشياطين)، ويتضح في هذا النص، أن كل استخدام مبالَغ به للموارد، يفوق الحاجة المستحقّة يعني خروجا على دائرة الاستعمال الصحيح إلى الخاطئ، وفيه أضرارا قد تتجاوز المستخدِم إلى أناس آخرين يقلّون ويكثرون حسب المنصب الذي يشغله ذلك المستخدم، فكلما كان مركزه الوظيفي حساسا شاملا لعدد كبير من البشر، ستأتي نتائج الإسراف والتفريط والتبذير لتلحق الأذى بالآخرين.
وبحسب المختصين يعني ترشيد الطاقة التحكم بمقدار زيادة الطلب على الطاقة باستخدام أساليب متعددة تتضمن وضع قوانين تحكم المواعيد التجارية طرح حوافز مالية للمستهلك إضافة إلى حملات التوعية بين المواطنين، وعادة ما يكون هدف إدارة الطلب على الطاقة، هو حثّ المستهلك على تقنين استهلاك الطاقة خلال أوقات الذروة، أو إزاحة أو تأجيل هذا الاستهلاك إلى أوقات أخرى مثل ساعات الليل أو عطلة نهاية الأسبوع.
كما أن إدارة الاستهلاك الكهربائي في أوقات الذروة لا يعني بالضرورة تخفيض إجمالي الطاقة المستهلكة الكلية، ولكنه يهدف إلى تقليل الحاجة إلى الاستثمار في تطوير الشبكات الكهربائية أو بناء محطات طاقة مخصصة لتغطية حمل أوقات الذروة، وقد يتغير استخدام الكهرباء بشكل كبير على الأطر الزمنية القصيرة والمتوسطة، ونظام التسعير قد لا يعكس السعر اللحظي للاستهلاك حيث تنضم مصادر طاقة أعلى في السعر إلى شبكة الاستهلاك في أوقات الذروة، بالإضافة لذلك، استيعاب او قابلية مستهلكي الكهرباء لتعديل استخدامهم كي يناسب ما يتوافر من طاقة يمكن للمصادر أن تقدمها للمستهلكين، لذلك ينبغي أن يكون هناك توازن شديد بين الطاقة المتوافرة وبين السعر المطروح للمستهلِك.
عانى العراق من نقص الطاقة الكهربائية، وتحولت إلى أزمة مزمنة، أي أنها بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي، واستمرت هذه الأزمة بالتصاعد حتى بعد التغيير السياسي الكبير في نيسان 2003، ومن المفارقات الغريبة حقا أن تتصاعد أزمة نقص أو فقدان الطاقة الكهربائية حتى يومنا هذا، وهذا يجعلنا نطرح التساؤل المزدوج التالي: ما هي الأسباب الفعلية التي تقف وراء هذه الأزمة، وما الإجراءات التي يمكن أن تحد منها أو تعالجها على نحو كلّي؟.
الأسباب التي صنعت هذه الأزمة تأتي في شقّين، الأول التخطيط الحكومي المتعاقب والذي فشل بصورة تامة في معالجة هذه الأزمة وتتحمل مسؤوليته جميع الحكومات والوزراء الذين تعاقبوا على قيادة وزارة الكهرباء، فهؤلاء جميعا مسؤولون عمّا يعانيه العراقيون بسبب هذه الأزمة، وحتى الاقتصاد العراقي يطوله جزء من الأضرار الجسيمة بسبب أزمة الكهرباء، لكن هل تتوقف الأسباب عند هذا الحد، ويبقى السؤال هل الحكومات والوزراء الفاشلون هم وحدهم يقفون وراء هذه الأزمة وتفاقمها عاما بعد آخر؟.
الجواب الصحيح سوف نعثر عليه في الشق الثاني من الأسباب، وهو يتعلق بالمواطن العراقي وثقافة الترشيد، فالعراقيون حتى يومنا هذا تعوزهم ثقافة الترشيد ليس في الطاقة الكهربائية وحدها، بل في استخدامهم لجميع الموارد المتاحة لهم، هناك مشكلة في هذا المجال، فالعشوائية والعب في الاستعمال للموارد تشمل الأفراد العراقيين والجماعات أيضا، لأنهم يفتقرون على نحو كلّي لثقافة الترشيد ولنأخذ مثالا على ضمور هذه الثقافة عند الفرد والعائلة العراقية.
إن البيت العراقي لا يعرف أي شيء عن ترشيد الكهرباء، وحتى أرباب الأسر آباء وأمهات لم يتحلوا بهذه الثقافة، ولم يخطر في بال أحدهم إلا ما ندر، أن يطفئ مصباحا لا يحتاج إلى إنارته، أو يوقف تشغيل جهاز كهرباء لا يستفيد من خدماته، فنرى أن جميع مصابيح البيوت مستخدمة رغم حاجة البيت إلى قسم منها، ربما تكفيهم نسبة ثلث المصابيح وتؤدي تمام الحاجة، لكن الملاحظ أن جميه المصابيح مستخدمة وفي جميع البيوت إلا ما ندر.
ليس هذا فحسب، فهناك من ينسى إضاءة المصابيح حتى حين تكون الشمس في قلب السماء، أي أن نصف الأرض مضاء بنور الشمس لكن العائلة العراقية بسبب نقص ثقافة الترشيد تنسى أو تهمل أو لا تبالي بإطفاء المصابيح حتى بالنهار، والطامة الكبرى عندما تشترك دوائر ومديريات الكهرباء نفسها، في هذا الخلل السلوكي الثقافي الترشيدي، فتترك مصابيح الشوارع العامة وحتى الأزقة مضاءة في النهار، وفي نفس الوقت تطالب المواطنين بالترشيد، فأية ازدواجية هذه وأية لامبالاة، حين يدعو المسؤول مواطنيه إلى الترشيد وهو نفسه غير مبالٍ بهذه الثقافة.
لهذا السبب الحكومة ليست وحدها المسؤولة عن أزمة الكهرباء ولا وزاراتها السابقة واللاحقة، ومع ذلك لا يمكن أن تُعفى على نحو كلّي من المسؤولية لأنها تشترك بصناعة هذه الأزمة، من خلال سياساتها في التعامل مع الطاقة الكهربائية وتهاونها في بعض الأمور الخدمية المهمة مثل الجباية والأسعار، وعدم تطبيق القوانين الصارمة بحق المتجاوزين على خطوط الطاقة، سواء من المسؤولين وذوي المناصب والأحزاب الكبيرة، أو من المواطنين، فالقانون يجب أن يتم تطبيقه على المخالفين بغض النظر عن شخصياتهم ومراكزهم الوظيفية أو الاجتماعية.
أما كيف يمكن أن نرسخ ونطور ثقافة الترشيد لدى الفرد والمجتمع، فهذا الإجراء لا يمكن أن يتحقق بين ليلة وضحاها، ولكن ينبغي أن تكون هناك بداية فعلية تطبيقية لهذه الثقافة ونشرها بين الناس، يتحمل مسؤولية ذلك، الإعلام أولا، والمؤسسات والمنظمات الثقافية، حتى المدارس لها حصتها من هذه المسؤولية التثقيفية، كذلك المؤسسات الرسمية المعنية بهذا القطاع، فهذه الوزارة ومؤسساتية يقع عليها جانبا من عبء التثقيف والتوعية الترشيدية لاستهلاك الطاقة الكهربائية.
وحين تتضافر جهود الحكومة والوزارة والعائلة العراقية والأفراد والجهد التعليمي والوزاري المعني والمنظماتي، سيكون هناك توجّه عام نحو ترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية، حتى وسائل التواصل بمختلف سعتها وتوجهاتها، يمكن أن يتم توظيفها للدخول في نشر ثقافة الترشيد كونها الأكثر انتشارا والأسرع وصولا إلى أكبر عدد ممكن من المواطنين والمسؤولين على حد سواء، وفي حال توافرت هذه الثقافة الرصينة وتوسعت وتغلغلت بين القطبين الأهلي العائلي والرسمي الحكومي، نكون قد قطعنا المسافة الأكبر للقضاء على هذه الأزمة التي أرّقت العراقيين منذ عشرات السنين.
اضف تعليق