لمشاهدة حلقات الصراع الغربي – الغربي، يمكن فتح ملفات العقوبات الامريكية على الدول التي تعارض سياسة واشنطن وردود الأفعال الاوربية على هذه العقوبات بين معارض لها او مؤيد بالاكراه، وهذه المعارضة التي يتصورها البعض بانها أمورا بسيطة الا ان واقعها عميق جدا ويكشف عن حقيقة الصراع العالمي...
الصراع الدولي يبدو في مظهره بين الشرق والغرب في عودة لسيناريو الحرب الباردة، بينما تكمن حقيقته في حرب اقتصادية كبرى بين الغرب نفسه، قد تتبعها حرب على مستقبل من يحمل راية العالم الليبرالي، وفي هذا المضمار تتوزع مناطق التنافس بين الطرفين مرة في روسيا وأخرى في ايران او سوريا وتركيا وحتى على إسرائيل نفسها التي تعد نفسها قطعة من الغرب مزروعة في قلب الشرق.
لمشاهدة حلقات الصراع الغربي – الغربي، يمكن فتح ملفات العقوبات الامريكية على الدول التي تعارض سياسة واشنطن وردود الأفعال الاوربية على هذه العقوبات بين معارض لها او مؤيد بالاكراه، وهذه المعارضة التي يتصورها البعض بانها أمورا بسيطة الا ان واقعها عميق جدا ويكشف عن حقيقة الصراع العالمي.
اعلن الرئيس الأمريكي مؤخرا عن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الموقع مع ايران وبمشاركة بريطانيا وفرنسا وألمانيا وممثلية الاتحاد الأوربي بالإضافة الى روسيا والصين، وقد عارضت هذه الدول مجتمعة قرار الرئيس الأمريكي، ووصفته بغير الحكيم وتهديدا للسلام العالمي.
ورأى بعض المتابعين للسياسة العالمية ان هذا الخلاف الأوربي –الأمريكي غريبا بعض الشيء لان ايران في النهاية تمثل تهديدا لمصالح اوربا في الشرق الأوسط، من خلال تبنيها سياسة متشددة تجاه كل ما هو غربي وسلوكها التوسعي في المنطقة على حساب المصالح الاوربية الراسخة وآية هذا التهديد تتمثل في سوريا ولبنان.
الا ان الحسابات الاوربية ابعد من السياسة، ففي حال ممارسة ضغوط قوية على ايران يمكن ان تمارس الاخيرة سياسة اكثر تشددا تجاه المصالح الغربية، وتزيد من تدخلها في شؤون دول الشرق الأوسط، وهو ما يزعزع استقرار المنطقة وينذر بعواقب وخيمة، والأخطر من هذا هو اندلاع حرب عسكرية كبيرة بين ايران من جهة وامريكا وإسرائيل من جهة أخرى، وهو صراع سيكون طويلا جدا لان هزيمة أي من الطرفين ستكون صعبة جدا.
وتخشى الدول الاوربية من ان يمضي دونالد ترامب وفريقه المتشدد الى ابعد من حرب الاستنزاف الى حرب اسقاط النظام الإيراني، ما يعني ان الفوضى ستعم البلاد التي يزيد عدد سكانها عن ثمانين مليون، وهم يعانون من الفقر، ما ينذر بموجة كبرى من النزوح لا تحتملها بلدان الاتحاد الأوربي مجتمعة.
اما على المستوى الاقتصادي فالانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي وإعادة نظام العقوبات على ايران هو تهديد مباشر للمصالح الاقتصادية الاوربية، فالشركات الفرنسية والبريطانية والألمانية الكبرى قد عقدت صفقات كبرى مع طهران، وتنتظر ان تدر عليها أرباحا طائلة خلال الأعوام المقبلة، بينما جاء الغاء الاتفاق النووي ليحرق كل تلك الصفقات.
وقد ألمح السفير الفرنسي في الولايات المتحدة، جيرار آرود، إلى ذلك يوم الخامس والعشرين من (أيلول/سبتمبر) في ندوة نقاشية نظمها مجلس الأطلسي مع شركائهم الأوروبيين الموقعين على الاتفاقية. كانت الاتفاقية، بحسب آرود، ثمرة 20 شهرا من المفاوضات الشاقة مع شركاء من قبيل الصين وروسيا، الذين عادة ما عرقلوا مبادرات دبلوماسية بقيادة الغرب فيما مضى. يريد كلا البلدين استمرار الصفقة، لدخول العديد من شركاتهما المملوكة للدولة مشاريع مشتركة ضخمة مع شركات الطاقة الإيرانية. مشيرًا إلى أن الصفقة "تشمل العديد من الشركاء الذين يصعب إرضاؤهم. إن أي شخص يقول إن في وسعنا إعادة التفاوض للحصول على صفقة مثالية مع هكذا نوع من الشركاء، إنما يحلم وحسب".
وتذهب اوربا الى ابعد من معارضة السياسة الامريكية، بل الى إقرار قوانين تحمي شركاتها اذ قال وزير المالية الفرنسي، برونو لو مير، الأحد 20 مايو/أيار 2018، إن بلاده تنظر فيما إذا كان بمقدور الاتحاد الأوروبي حماية وتعويض الشركات الأوروبية التي قد تواجه عقوبات من الولايات المتحدة، بسبب تعاملها مع إيران، إثر خروج واشنطن من الاتفاق النووي. وأشار "لو مير" إلى قواعد أوروبية يرجع تاريخها إلى عام 1996، والتي قال إنها قد تسمح للاتحاد بالتدخل بهذه الطريقة لحماية الشركات الأوروبية من أي عقوبات أميركية، مضيفاً أن فرنسا تريد من الاتحاد أن يشدد موقفه في هذا الصدد.
ويقول مارك ليونارد مدير المجلس الأوربي للعلاقات الخارجية في مقال له انه "الآن بعد أن قام ترمب بتعيين فريق جديد متشدد في إدارة السياسة الخارجية، يضم جون بولتون في منصب مستشار الأمن القومي، ومايك بومبيو في منصب وزير الخارجية؛ يخشى الدبلوماسيون الأوروبيون أن تتدهور الأمور". ويشير الى ان قادة الاتحاد الأوربي لا يزالون يستذكرون ما حدث في حرب العراق التي فرضتها واشنطن على بروكسل واحدثت فوضى عارمة في المنطقة، وهم يتبنون استراتيجية جديدة تقوم على عدم الانصياع للتوجهات الامريكية المتشددة.
وبعد إقناع روسيا والصين بدعم إستراتيجيتهم، اقترب الأوروبيون من الولايات المتحدة باختيار آخر صارخ: فإما أن تنضم إلى تحالف دولي لفرض الضغوط الدبلوماسية على إيران، أو تتخذ بمفردها تدابير عسكرية مشكوكا في فعاليتها.
تدور الأهداف الرئيسية التي يسعى القادة الأوروبيون إلى تحقيقها في منطقة الشرق الأوسط حول قضايا: تهدئة الصراع على الهيمنة بين إيران والسعودية، ومنع الانتشار النووي، ومحاربة الإرهاب، ووقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا. بحسب ما يرى ليونارد.
الخطة الاوربية تقوم على تقديم حوافز اقتصادية لإيران لتعويض الخسائر التي ستتحملها بسبب العقوبات الامريكية، وفي حال أصرت واشنطن على افشال الخطة الاوربية فان دول الاتحاد الأوربي ستنسحب من الاتفاق النووي لكنها لا يمكن ان تعود للتعاون مع الولايات المتحدة لانها في كل الأحوال ستخرج خاسرة وايران ستقوم بتسريع وتيرة صناعاتها الحربية، وصواريخها الان تصل الى حدود اوربا.
هذا الواقع يدفع الدول الاوربية الى الوقوف مع طهران او على اقل تقدير ان تقف على الحياد في صراعها مع واشنطن لانها تؤمن بحتمية اشتعال الوضع الحالي، وكل ما تقوم به هو خطوات لتاجيله اكثر مما تقوم بإطفائها، لذلك فان محاولة استرضاء ايران تمثل محور استراتيجيتها الجديدة خشية تحولها (اوربا) الى ساحة لتصفية الحسابات الإيرانية الامريكية.
من الواضح ان قادة الاتحاد الأوربي يشعرون بالسخط من إدارة الرئيس الأمريكي والولايات المتحدة عموما التي أصبحت تتخذ قراراتها دون الاكتراث بالمخاوف الاوربية، وبينما ظهر التنافس الاقتصادي بشكل صريح بين الطرفين، فان هناك تنافسا اكثر خطورة سيظهر في السنوات القادمة حول زعامة العالم الغربي الليبرالي وهو صراع اكثر خطورة وينذر بظهور نزعات متطرفة تهدد بانهيار التحالف الغربي.
اضف تعليق