q
ان تصاعد أسعار النفط التدريجي لا يكفي وحده، بل ينبغي أن يوازيه تصاعد في ذكاء الساسة المعنيين في إدارة إيرادات النفط بالطريقة التي تمنع تعرض العراق للهزات والأزمات التي حدثت قبل سنوات، فما يحصل عليه العراق من مليارات النفط ينبغي أن يجعله في مصاف الدول القوية المرفّهة فيما لو أحسن صناع القرار والمعنيون التعامل مع الإيرادات بصورة علمية خاضعة للتخطيط والتدقيق الصارم.

يردد العراقيون كثيرا وربما معهم أعداد من المسلمين: (لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين)، أي أن الإنسان الذي يقع في خطأ كبير يُلحق به أضرارا كبيرة، ينبغي أن يكون من الذكاء والنباهة بحيث لا يتعرض للخطأ نفسه أو ما يقاربه في الأسلوب والظروف والأدوات، وقد كشفت أزمة الهبوط الدراماتيكي لأسعار النفط في العالم قبل سنوات قليلة، أغطية كثيرة كانت تخفي تحتها الغباء السياسي لقادة ومسؤولين في عدة دول، لاسيما المتأخرة منها، ومن بينها العراق الذي أهدر قادته السياسيون فرصاً من الصعب تعويضها، وربما حانت الفرصة الآن كي يستفيد أصحاب القرار من الفرصة المتاحة لهم بعد استعادة أسعار النفط بشكل تدريجي توازنها.

أما لماذا تم نعت بعض الساسة العراقيين بالغباء وخصوصا المسؤولين عن القطاع النفطي والاقتصاد والتخطيط وكل ما يتعلق بتقدم البلد واستقراره، فإن سبب ذلك هو العجز الذي يكبّل عقولهم وبصائرهم، لاسيما أنهم يتحلّون بشراهة لا نظير لها، بخصوص التعامل مع الامتيازات والمنافع والاستحواذ، أما إذا تحدثنا عن مسلسل الإهدار المنظَّم والعشوائي للمال العام، فإنه حتما لا يقل أذى وخطورة عن مسلسل تضييع الفرص المذكور، فهل ستكون فرصة استعادة أسواق النفط استقرارها التقريبي وعرض أسعار مقاربة لما كانت عليه، محط استثمار العقل السياسي الاقتصادي العراقي، أم ستمر قضية تحسّن الأسعار مرور الكرام، وكأنّ شيئا لم يكن؟.

لقد بلغت أسعار النفط في السابق أرقاما قياسية فاقت الـ 100 دولار للبرميل الواحد، ومعها عبرت الميزانية المالية لسنوات متعاقبة للعراق حاجز الـ 100 مليار دولار، وكان العراق في حينها يصدّر يوميا ملايين البراميل، ويحصل على عائدات ضخمة تعود إيراداتها بمليارات الدولارات، حيث كانت تبلغ الميزانية السنوية أكثر من مئة مليار سنويا، بل قُدَّرتْ ميزانية أحد الأعوام بـ 140 مليار دولار، بسبب الكميات الضخمة من النفط المصدَّر الى دول العالم، ولكن كل هذه الأموال الضخمة التي كانت تشكل فرصة ذهبية لبناء العراق القوي المدني من حيث المعمار والفكر وسواهما، تم التعامل معها بغباء لا مثيل له، وتم إهدار تلك الأموال لدرجة أن مليارات الدولارات الضخمة، ضاعت هباءً، أما الذي يقف وراء هذا الإهدار الخطير فإنهم ساسة وسماسرة مؤشَّرون ومعروفون، لكن للأسف حتى بعد مرور سنوات لم يتعرض أحدهم للمساءلة من القضاء، والأنكى من ذلك حتى بعد هبوط أسعار النفط واعتماد الدولة العراقية سياسة تقشفية بقي الإهدار والفساد والاختلاس والتجاوز حاضرا في مشهد الفساد.

وبعد حصول الأزمة المالية على الصعيد العالمي، وهبوط سعر برميل النفط ما يقترب من 30 دولارا، بفارق هبوط تجاوز الـ 70 دولارا، توقع المراقبون أن هذه الصدمة سوف تجعل الساسة المعنيين يعيدون حساباتهم ويستفيدون من هذا الدرس القاسي، على الشعب بالطبع وليس على الساسة، وكان التوقع السائد أن أصحاب القرار سوف يدركون فداحة الخسائر التي تعرض لها البلد بسبب السياسة القاصرة، فعندما كانت الأموال مبذولة وكبيرة وضخمة، لم يفكر هؤلاء او بعضهم، باليوم الأسود! الذي قد يواجه العراق والعراقيين مستقبلا، لكن حين هبطت أسعار النفط بطريقة دراماتيكية سريعة وغير متوقعة، فقد كشفت غباء بعض القادة السياسيين المعنيين بالتخطيط والاقتصاد، إذ أنهم لم يفكروا بمثل هذا اليوم، أو أنهم كانوا ليس بمستوى المسؤولية الوظيفية والأخلاقية والشرعية التي تؤهلهم، كي يصبحوا قادة له، فيستثمرون أمواله الضخمة، من اجل حاضر مؤمَّن من الإفلاس ومستقبل يليق بالأجيال القادمة، ولكن حدث الذي حدث أمام مرأى الجميع واليوم بدأت النفط يسترد أنفاسه رويدا وبلغ أو تجاوز حاجز الـ 70 دولارا، فهل سيبقى أصحاب العقول القديمة على سياستهم نفسها أم هناك أفكار وتخطيط يواكب المرحلة الجديدة، ويوظّف الأخطاء السابقة لصالح الحاضر والمستقبل؟.

إن الخشية تتأتى من جمود العقل التخطيطي للساسة العراقيين، والخوف كل الخوف تبقى هذه العقول على حالتها التي أدت إلى إهدار عشرات المليارات من الدولارات، بسبب ضعف التخطيط وسوء إدارة الأموال، فضلا عن ضعف القانون والقضاء من حيث الجانب التنفيذي، فالمعنيون من القادة والساسة المخططون لم يفكروا بقضية واحتمالية هبوط أسعار النفط في حينه!، مثلما أهملوا خطورة السياسة الاقتصادية الريعية التي انتهجوها منذ بلوغهم دفة المسؤولية الرسمية، فجعلوا من العراق وشعبه بلدا يعتمد في وجوده وإدامة حياته وصنع حاضره ومستقبله على تصدير النفط فقط، ولم يرد في عقولهم إقامة مشاريع اقتصادية، تصنع روافد اخرى للموارد تساعد النفط، وتصب في صالح البلد وتجعله اقل اعتمادا على مصدر أوحد للإيرادات، كما هو الحال الآن مع النفط، علما إن الجميع يعلم، وأولهم السياسيون بأن هذه السلعة - النفط- معرضة للنفاذ في المستقبل، لذا ليس من الصحيح ولا المعقول، أن تبقى المصدر الوحيد لإدامة حياة العراق والعراقيين، مع ذلك ظلّت سياسة تضييع الفرص ليس في المجال السياسي وحده، ولا في المجال الأمني، ولا في المجال الاقتصادي والتعليمي والصحي، بمعنى مسلسل تضيع الفرض يشمل جميع مجالات الحياة العراقية، بسبب العجز والغباء السياسي لبعض صنّاع القرار خصوصا في مجال إدارة الأموال وإنفاقها في المشاريع الاستثمارية الناجحة.

ومن النتائج الشنيعة التي أفرزتها سنوات ما بعد الأزمة المالية الصاعقة، ذلك العجز والتقاعس والانحراف لبعض القائمين على البلد، مما دفع بالعراق شعبا وحكومة في أتون أزمة اقتصادية زادت من خطورتها أزمات فرعية، أزمة الأمن، وأزمة تدمير البنية التحتية، وأزمة الفقر، حيث سعى بعض السياسيين تحميل أعباء الأزمة التي صنعها غباؤهم السياسي على الفقراء من أصحاب الدخل المحدود كالموظفين ومستحقي رواتب الرعاية الاجتماعية، والبطالة، فيما لم يتطرق احدهم بخصوص امتيازاتهم ومخصصاتهم التي أثقلت كاهل الميزانية المالية لسنوات عديدة، وكأن مسلسل الفساد المستمر لا يكفي لملء جيوبهم ومضاعفة أرصدتهم في البنوك المحلية والعالمية، فضلا عن أملاكهم الأخرى، لذلك برز للسطح تساؤلات جدية، خصوصا أن الانتخابات النيابية على الأبواب، تذهب كل هذه التساؤلات في مسار حتمية التغيير وعدم الوقوع في الفخ الذي قاد العراق إلى الأزمة المالية السابقة، فتصاعد أسعار النفط التدريجي لا يكفي وحده، بل ينبغي أن يوازيه تصاعد في ذكاء الساسة المعنيين في إدارة إيرادات النفط بالطريقة التي تمنع تعرض العراق للهزات والأزمات التي حدثت قبل سنوات، فما يحصل عليه العراق من مليارات النفط ينبغي أن يجعله في مصاف الدول القوية المرفّهة فيما لو أحسن صناع القرار والمعنيون التعامل مع الإيرادات بصورة علمية خاضعة للتخطيط والتدقيق الصارم.

اضف تعليق