في الاعلام العراقي لدينا مشكلة الخلط بين الوطنية والمهنية، وهل هناك تعارض بين المهنية والوطنية؟ في الواقع، التزام المعايير المهنية الإعلامية هو سلوك وطني بامتياز، فمهمة الصحفي الأساسية هي كشف الحقيقة للراي العام، بغض النظر عن أي شيء تتعلق، لأنه مثل الطبيب الذي يعالج الناس لا يمكنه ان يكذب على مرضاه حتى لا يصابوا بالخوف والفزع، اذ ان كشف الحقائق رغم مرارته وصعوبته يساعد على تحديد مكامن الخلل لتقوم الجهات المختصة بإصلاح هذا الخلل.
في فترة الحرب ضد داعش الاجرامية كان النقاش حول القضايا العامة شبه مرفوض اجتماعيا فأي فكرة تناقش قضايا مثل الحقوق العامة او حرية الراي والتعبير وما يرتبط بها من ضرورة خضوع وسائل الاعلام لمعايير جديدة لا يمكن لهذه الفكرة ان تسلم من كلمات التخوين وانتهاك كرامة الوطن.
الحرب التي استمرت لمدة ثلاث سنوات تحول فيها المراسل الصحفي الى جندي لفرض الحقيقة وليس شخصا لكشفها، يتم تبرير هذه الممارسة بان الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب كما يقال، ومن جانب اخر هناك رأي فيه الكثير من الواقعية يقول ان ما تعرض له البلد من تلاعب اعلامي لا بد وان نكسر بعض القواعد لحين الخلاص من الكارثة وإعادة صياغة تلك القواعد عندما نجلس سالمين بعد الخلاص من أخطر جماعة إرهابية حكمت أجزاء من العراق.
ورغم اعتراضنا على هذه الحجج الا انها كانت هي التي تحكم العمل الإعلامي العراقي طوال فترة الحرب، ومبرر هؤلاء المدافعون عن فكرة طمس معالم المهنية هي مواجهة الحرب النفسية للعدو، الا ان الواقع فان الكثير ممن يحملون فكرة الحرب النفسية كانوا يمارسون نفس الفعل في زمن السلام، أي قبل مجيء داعش ولنفس السبب (البلد معرض لخطر).
من نتائج تحويل الصحفي العراقي الى جندي ضمن قوات الجيش هو فقدان مصداقية وسائل الاعلام العراقية وهنا تصبح كل الجهود التي يبذلها الاعلام فارغة لا فائدة منها، فالهدف النهائي للصحفي هو الوصول الى الجمهور والتأثير بأفكاره بطريقة إيجابية، وفي فترة الحرب كان تقرير واحد لقناة تلفزيونية اجنبية كافيا لنسف ما تقول 50 قناة عراقية! فما السبب؟ انه المصداقية التي تتمتع بها القناة الأجنبية وعدم الثقة بالنسبة للمؤسسات العراقية.
كيف يمكن بناء جسور الثقة؟
الحرب ضد داعش كشفت لنا اننا لا نملك وسائل اعلام أصلا، والواقع يتحدث عند ذلك، والبلد بحاجة الى صوت يصل الى دول العالم التي تقرأ وترى عن العراق عبر وسائل اعلام اجنبية لها اجنداتها ومهماتها الخاصة، ويمكن بناء منظومة إعلامية وطنية عبر وضع مفاهيم محددة للإعلام.
اول ما يحتاجه قطاع الاعلام العراقي هو وضع قوانين فعالة تضمن حق الوصول والحصول على المعلومات، لان المعلومة هي سلاح الصحفي، وبدونها تبقى أسيرة الاجتهادات الشخصية للصحفيين ومن ثم سنفقد الكثير من الفعالية الإعلامية التي تخدم بالمحصلة النهائية بناء المنظومة الإعلامية الوطنية الجديدة.
في المقابل لا بد من وضع معايير مهنية صارمة لممارسة الصحافة، اذ لا يمكن ان تستخدم وسائل الاعلام من اجل الابتزاز كما حدث ان قام أحد مقدمي البرامج التلفزيونية بتهديد زعيم حزب سياسي قائلا له بانه يملك له تسجيلات سيخرجها للعلن في حال استمراره بسلوكه السياسي، وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام حول مهنية هذا الصحفي.
ما هي مهمة الاعلام العراقي
في الاعلام العراقي لدينا مشكلة الخلط بين الوطنية والمهنية، وهل هناك تعارض بين المهنية والوطنية؟ في الواقع، التزام المعايير المهنية الإعلامية هو سلوك وطني بامتياز، فمهمة الصحفي الأساسية هي كشف الحقيقة للراي العام، بغض النظر عن أي شيء تتعلق، لأنه مثل الطبيب الذي يعالج الناس لا يمكنه ان يكذب على مرضاه حتى لا يصابوا بالخوف والفزع، اذ ان كشف الحقائق رغم مرارته وصعوبته يساعد على تحديد مكامن الخلل لتقوم الجهات المختصة بإصلاح هذا الخلل.
الاعلام هو العلانية، كل شيء مباح الا ما يتعلق بالقضايا الشخصية للناس وقضايا الامن القومي، وما دون ذلك فهو مكشوف، وبدون العلانية يصبح الاعلام دعاية وكذب وتزوير للواقع، تنتج مجتمعا لا يؤمن بالمصداقية التي هي أصل الإسلام، حيث وصف النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) بالصادق الأمين، وهو الذي قال: "الصدق امانة".
بعيدا عن المثالية قريبا من الواقع
إذا ما استطاع قطاع الإعلام العراقي ان يضمن قوانين لحرية تداول المعلومات، وتأكيد حق الصحفي في الوصول والحصول على المعلومات، بالإضافة الى وضع معايير مهنية صارمة تحدد اليات عمل الصحفيين، فان نواة بناء جديدة قد بدأت.
في عصر تداول المعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعشوائية تناقل هذه المعلومات، تكون الحاجة الى بناء منظومة إعلامية هي حاجة ملحة، ومن اجل محاربة الشائعات والدعوات غير الوطنية يكون نشر الحقيقة هو الطريق الأقرب لخدمة البلد، فالثابت ان الشائعات والمفاهيم المغلوطة تنتشر حينما تشح الحقيقة، ومدينة الموصل قد احتلت بسبب شائعات كانت بحاجة الى وسيلة اعلام وطنية كبرى تتمتع بمصداقية عالية ان تفند هذه الشائعات.
من يفَعّل دور الاعلام المهني
في بلد أصبح فيه نشر الحقيقة تهمة يحاسب عليها الشخص اجتماعيا، ويوصم بعار خيانة الوطن، يكون من الصعب إيجاد صحفيين قادرين على أداء هذه المهمة، لذلك فالنقابات المهنية ووسائل الاعلام عليها ان تدرب العاملين فيها على أهمية نشر الحقائق كخدمة يحتاجها المجتمع.
في عصر المعلوماتية لا يعد فتح قناة تلفزيونية إنجازا عالميا، انما اثبات اسم هذه القناة في زحمة الاحداث هو الإنجاز، ونشر الحقيقة هو الرافعة التي تعلو في أي مؤسسة إعلامية الى النجومية، وما احوج البلد الى من يسوق منجزاته الى العالم.
اضف تعليق