إن العالم المعاصر، مؤطر بالأنانية والاثرة والتفاوت الطبقي، وهذا يتجسد في الموازين الحاكمة غير الإنسانية، فالحالة التي يعيشها العالم المعاصر، تعد حالة مرضية، مردّها عدم إنسانية الفكر وعوقه، على كافة الأصعدة التكوينية الضيقة، وذلك يتطلب وضع مخرجات فاعلة، للعلاج المستقبلي لها، للخروج من الحاضر المتداعي في مشاكله المريرة ضمن صياغة جديدة، مستقبلية ومثلى، مبينة ماهيّة الإنسان وطبيعته، وفي أية وجهة يسير...
لا أتذكّر بالضبط أين قرأت أو سمعت مضمون الجملة التالية: (ليس شرطاً أن تتوافق أفكار الكاتب مع شخصيته وسلوكه)، وهناك كثيرون يتحفظون على هذه الجملة، وأنا أحد الذين لا يمكن أن يؤمنوا بالتناقض بين أفكار ومبادئ الكاتب، وبين شخصيته وسلوكه، فالشخصية السيئة لا يمكن أن تكتب عن الأخلاق بتفرّد، ويصح العكس، فصاحب الفكر المستند إلى الأخلاقيات الأصيلة، لا يمكنه كتابة الأفكار والمضامين التي تدمّر الهيكلية الأخلاقية للإنسان.
وقد عمدت الأمم إلى اعتماد الأفكار القائمة على الأخلاق كي تبني نفسها، وهذا يعني أن الأمم الضعيفة بنائيا تكون بحاجة قصوى للمفكرين الأخلاقيين، وقطعا أن الإنسان الموهوب أدرك دور الفكر في صناعة المجتمع المتميز منذ وقت مبكر، فمزج المفكرون المبدعون بين الأخلاق والفكر، كي يحمي الناس من الزلل، فعندما يجتمع الفكر المتوقد مع الأخلاق المضيئة، عند هذه النقطة ستلتقي موجتان مصنوعتان من الفكر والأخلاق، وتولد أمواجاً فكريةً أخرى تعيد صياغة المجتمع، وتضع أقدامه على السبيل الصحيح، وصولا الى المجتمع المثالي، وهو هدف لا يقع في دائرة المستحيل، طالما أن هنالك رؤية تستند إلى اعتماد الفكر الأخلاقي في صناعة البنية الفكرية الأخلاقية السلوكية للمجتمع.
بإمكاننا أن نجزم بأن التقدم البشري قام على التآزر بين دعامتين مهمتين هما، الفكر والأخلاق، وقد حدث هذا في بقاع من العالم كانت ترزح تحت الظلام، عندما تعاقبت الموجات الفكرية الخلاقة قبل ما يقرب من ثلاثة قرون في الغرب، بعد خروج تلك الجماهير الغفيرة التي كانت تغوص في مستنقع الجهل، ابان الفترة المظلمة، فما رافق الثورة الفرنسية من أحداث على سبيل المثال، لم يكن وليد تلك اللحظة التاريخية، ولا هو وليد الصدفة وحدها، فقد سبق هذه المرحلة تمهيد طويل المدى بوساطة الفكر الأخلاقي التقدمي، وظهرت أفكار مباشرة وأخرى ظهرت ضمن إطار فلسفي، وكذلك أفكار حملتها قصص وروايات وحواريات حاولت إعادة صياغة الإنسان والمجتمع، كما فعل ذلك مثلا، (جان جاك روسو) وحتى كتاب الرواية، فهؤلاء أيضا قدموا صياغات جديدة لمجتمع جديد وأطر سياسية جديدة، وكانت موجات الفكر هذه قد انعكست على الإنسان، فأسهمت في صنع موجة التجديد والتقدم بفعل الفكر الأخلاقي الذي اعتمده قادة ومفكرو الأمم التي تطلّعت صوب مستقبل مُصاغ وفق أسس محدثة.
وثمة الكثير من الأدلة التي تثبت ما جاء من أفكار في أعلاه، فهناك شواهد تاريخية قاطعة لا يمكن دحضها او إنكارها، لاسيما أنها قدّمت الفكر على سواه، ووضعت الأخلاق في درجة مقاربة من أهمية الفكر، فكانت المعادلة المطروحة تنطوي على قطبين، الأول هو الفكر والقطب المقابل له الأخلاق البنّاءة، وآمن قادة ومفكرو ذلك المجتمع الذي كان قابعا في الظلام، أنه إذا لم يكن هناك فكر نقي قادر على إعادة صياغة المجتمع، فإن البقاء في حومة التخلف ستكون قدر تلك الأمم التي لا تسعى بجدية للبحث عن صياغة جديدة للمجتمع، وهذا يعني أنها ستبقى في حيّز مغلق، خالٍ من الضوء والهواء النقي، فيخلو من الفكر المضيء أيضا، وكان هذا الحدس والشعور يقف وراء اندفاع المفكرين للدفع باتجاه إعادة صياغة المجتمع من خلال طرح الفكر البديل، وتوجد لدينا توجّهات جادة في هذا الاتجاه.
في كتاب عالم الغد وهو قراءة متجددة في كتاب الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام، وقد صاغه سماحة المجدد الثاني الإمام الشيرازي بذهنية أخلاقية فكرية متوقدة، نقرأ أن (الصحة في الفرد وفي الاجتماع، إنما تكون بسلامة الفرضية الذهنية من ناحية، وسلامة النظام المسيطر على المؤسسة الاجتماعية، من ناحية أخرى، مما يؤشر منهجا، الحاجة الى فرضية ذهنية، لتسيير المؤسسة الاجتماعية، لرسم الطريق في حياة الإنسان، وفق المعنى العام الجامع للاجتماع، الذي يستوعب فضاءات الاقتصاد والسياسة والتربية والثقافة، وفق الرؤية الإستراتيجية الشاملة).
إن وضعنا المأزوم الحالي، يدفع نحو التساؤل عن طبيعة الفكر الذي يرسم لنا منهجنا، أخلاقنا، حياتنا، فهل هذا الفكر هو الذي يليق بالإنسان، وهل هو قادر على صناعة وصياغة مجتمع تصونه الأخلاق الكريمة وتحميه من الانزلاق في مسالك الحضيض الفكري والعملي، إذا كان الأمر كذلك، لماذا يعاني عالمنا من موجات الاضطراب المتلاحقة، وكأن البشرية كلها في مركب يمخر عباب بحر الحياة نحو المجهول، وسط مخاطر هائلة، قوامها، الجشع، الأنانية، فقدان الأخلاق، وضياع الحس الإنساني، واندحار الفكر الحر.
النتيجة المستخلصة أننا نعيش في عالم يحكمه فكر قاصر معاق وربما متجمد في مسار واحد، غير مؤهّل لصناعة مجتمع إنساني منسجم مع ذاته، ولو أن هذا الفكر يخلو من القصور، وتدعمه أخلاقيات إنسانية، لكانت الحاجة الى فكر آخر منتفية وغير بنّاءة، ولكننا اليوم في حاجة قصوى الى إعادة صياغة وتجديد للفكر والسلوك المجتمعي بالدرجة الأولى، كونه يمثل (الخلية المجتمعية) المنتجة للقيادات السياسية والاقتصادية وسواها، فمن يا تُرى له القدرة على القيام بهذه المهمة، هذا هو السؤال الأهم الذي ينبغي أن لا تتأخر الإجابة عليه.
وهل نحن بالفعل نحتاج الى فكر متجدد، يعتني ويسعى ليقوّم خلل الحاضر ويؤسس للمستقبل، كما نقرأ ذلك في كتاب (عالم الغد) (إن العالم المعاصر، مؤطر بالأنانية والاثرة والتفاوت الطبقي، وهذا يتجسد في الموازين الحاكمة غير الإنسانية، فالحالة التي يعيشها العالم المعاصر، تعد حالة مرضية، مردّها عدم إنسانية الفكر وعوقه، على كافة الأصعدة التكوينية الضيقة، وذلك يتطلب وضع مخرجات فاعلة، للعلاج المستقبلي لها، للخروج من الحاضر المتداعي في مشاكله المريرة ضمن صياغة جديدة، مستقبلية ومثلى، مبينة ماهيّة الإنسان وطبيعته، وفي أية وجهة يسير).
هذا يؤشر بقوة ودقة دور الفكر في التغيير وقدرته على إحداث موجات متتابعة في الاجتماع قبل سواه، بيد أن آليات التطبيق قد تكون خفية، أو غير معروفة، فيحدث نوع من التشعّب والتشظي والعشوائية، وقد تكون الأخلاقيات مقحمة على الفكر، فيبقى دوره محصورا في رؤية ضيقة، حبيسة المزاج، مفتقرة، للإستراتيجية الفكرية بعيدة المدى.
في العموم وفي خلاصة ما نرتئي قوله، قدم المجدد الثاني (قده) مشروعا فكريا حضاريا، أراد من خلاله أن يقدم صياغة جديدة للعالم، معتمدا في ذلك على توفير ذهنية منتجة للفكر الأخلاقي القادر على التأثير الفعلي في تجديد رؤى الناس وأفكارهم ومن ثم انعكاس ذلك على سلوكهم، وبالنتيجة، عندما يتحد الفكر السليم مع الأخلاق القويمة، سوف تكون النتائج (صياغة سليمة) للمجتمع من حيث التفكير والسلوك والرؤية المستقبلية أيضا، وهذا سنجده من خلال المطالعة المركّزة لفحوى كتاب (عالم الغد).
اضف تعليق