فالديمقراطية ليست مؤسسات دستورية ديمقراطية شكلا ودكتاتورية ثقافة وسلوكا، كما انها ليست انتخابات دورية يسهل التحايل على المواطن الضعيف فيها من قبل المتنفذين بالترغيب ام بالترهيب ليقبل مستسلما بحكم السراق والجلادين، وانما هي قيم وتقاليد يترعرع عليها الفرد منذ نعومة اظفاره، ويمارسها في علاقته...
يكاد يجمع الكثير من الدارسين والكتاب المتابعين للتجارب الديمقراطية القديمة والحديثة على قاعدة مهمة هي: ان الديمقراطية عملية تطور سياسي بطيء، تحتاج لوقت طويل لترسيخ وجودها في الوعي والسلوك السياسي، وفي تشكيل الهياكل المؤسساتية التي يستند اليها نظام الحكم. بل هناك شبه اجماع على ان التطور الديمقراطي لا يعرف الحدود، وهو لا زال في حالة صيرورة دائمة تتوافق مع توق الانسان الى الحرية والسعادة، فحيثما وجد بشر يبحثون عن نظام حكم يكفل حقوقهم وحرياتهم، ويضمن كرامتهم، كان هناك حراك من نوع ما باتجاه الديمقراطية.
لكن مشكلة الديمقراطية هي ان انضاجها بحاجة الى الاستمرارية، والتراكم، والعقلانية، والاستعداد الفردي والاجتماعي لتحمل مشاقها، وتقبل نتائجها. لذا نجد ان معظم الشعوب، لاسيما في عالمنا النامي قبل وبعد استقلالها من مستعمريها اختارت إقامة مؤسساتها الدستورية بالاستناد الى دساتير انطوت على كثير من المبادئ الديمقراطية، كالفصل بين السلطات، واستقلالية القضاء، ومشاركة الشعب في الانتخابات، وان الشعب مصدر السلطات وما شابه ذلك، الا ان معظمها انتكست فيها التجارب الديمقراطية، وأصبحت عبئا ثقيلا على شعوبها، ولحقت بها الكثير من النعوت الناقدة كالديمقراطية الشكلية او المزيفة وغيرها، ولجأت الكثير من دولنا بعد نفضها غبار الديمقراطية الطارئ الى خيارات تكرس هيمنة الفرد الواحد والحزب الواحد حتى وان غلفت الامر بشعارات ديمقراطية بشكل او آخر كديمقراطية الإنجاز او المركزية الديمقراطية او الديمقراطية الشعبية... فالنتيجة واحدة هي عدم تحمل النخب والشعوب في بلداننا لاستحقاقات الخيار الديمقراطي، وعدم استعدادهم السير فيه الى النهاية.
ان الذي دفع شعوبنا الى هذه النهاية المأساوية بنتائجها الكارثية التي حصلت او التي لا زالت تحصل، هي انها شعوب تفتقر الى المرتكز الأساس للديمقراطية الا وهو التقاليد الديمقراطية، تلك التقاليد التي تحول المواطن من مواطن سلبي خانع ومسلوب الإرادة الى مواطن فعال وايجابي مستعد الى تحمل كل الأعباء والمشاق التي تحفظ له حريته وتحقق ارادته.
فالديمقراطية ليست مؤسسات دستورية ديمقراطية شكلا ودكتاتورية ثقافة وسلوكا، كما انها ليست انتخابات دورية يسهل التحايل على المواطن الضعيف فيها من قبل المتنفذين بالترغيب ام بالترهيب ليقبل مستسلما بحكم السراق والجلادين، وانما هي قيم وتقاليد يترعرع عليها الفرد منذ نعومة اظفاره، ويمارسها في علاقته مع افراد اسرته وأصدقائه وجيرانه والمختلفين معه في المعتقد والرأي والاثنية والجنس، وهذه القيم والتقاليد هي الضمان الحقيقي لنجاح الديمقراطية، فتكون المؤسسات الدستورية الديمقراطية وادواتها مجرد افراز طبيعي لها، وليس العكس.
ومع ايماننا بهذه الحقيقة، نجد أن العراقيين اليوم بحاجة الى وقت طويل لتقبل الثقافة الديمقراطية واحلالها التدريجي محل ثقافة اقصائية استبدادية تحكم الافراد والجماعات، تربت عليها أجيالهم لقرون طويلة، والذهاب باتجاه الديمقراطية لا يكون بأدوات خاطئة انما يتطلب الأدوات المناسبة للوصول الى غاية الديمقراطية الا وهي عدالة الحكم، وحرية المحكوم ورفاهيته، لذا فان الاستمرار بالانتخابات والايمان بها كوسيلة وحيدة لتولي السلطة سيكون من القرارات الصحيحة لشعب حطمته طويلا الدكتاتوريات بمختلف اشكالها ومرجعياتها الفكرية.
اضف تعليق