في الذكرى الخامسة عشر لانطلاق العمليات العسكرية الاميركية في العراق بهدف الإطاحة بنظام صدام، تقفز الى الذاكرة الاسباب الحقيقية وراء تحول العراق الى برميل بارود ليأتي الأميركيين ويشعلوا عود ثقاب واحد فقط ويتركوا النتائج للأيام بل السنين القادمة...
في الذكرى الخامسة عشر لانطلاق العمليات العسكرية الاميركية في العراق بهدف الإطاحة بنظام صدام، تقفز الى الذاكرة الاسباب الحقيقية وراء تحول العراق الى برميل بارود ليأتي الاميركيين ويشعلوا عود ثقاب واحد فقط ويتركوا النتائج للأيام بل السنين القادمة.
في الفترة التي سبقت الحرب، كانت وسائل الاعلام العالمية المعبئة اميركياً تتحدث عن مخاطر وجود اسلحة دمار شامل لدى صدام، وأن الولايات المتحدة وحليفاتها بصدد توفير الأمن للمنطقة والعالم بالقضاء على هذا الشخص وإنهاء تهديداته الى الابد، بيد أن بول بريمر الذي عينته واشنطن حاكماً مدنياً للعراق المحتل عسكرياً، تحديث عبر الشاشة الصغيرة للعراقيين عن غرف التعذيب في سجون صدام، في إشارة منه الى طبيعة المهمة التي جاء من اجلها، وهي انقاذهم من سياسات صدام الدموية.
ويذهب بعض المحللين في وسائل الاعلام، وايضاً ساسة ودبلوماسيين في العالم، الى الخيار السياسي والسلمي لتجنب الحروب، وبعد اندلاع الحروب الكارثية يصدر الكلام بأن "كان بالإمكان تجنب الكارثة"، بيد أن المشكلة ليست دائماً خارجية حتى تتكفل الجهود الدبلوماسية بالإسهام بحلها، إنما المشكلة في قدر كبير منها؛ داخلية تخصّ الحاكم الذي يكرر تجربة فرعون قبل آلاف السنين بأن (...ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، وهذا المبدأ الثابت في الانظمة الديكتاتورية هو الذي يمهد الارضية للفوضى السياسية والاقتصادية وانتهاك حقوق الانسان، وهو ما تتوقعه القوى الكبرى لتحقيق أجندات خاصة بها تدفع ثمنها الشعوب بحروب اهلية وأزمات سياسية خانقة، كالذي جرى في العراق، ومن بعدها في البلدان العربية التي عصفت بها رياح "الربيع العربي".
وفي احدى لقاءاته المتلفزة، نفى رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي أن يكون العراق على قائمة الربيع العربي كونه "خارج للتوّ من تغيير ديمقراطي كبير وانتصار على الديكتاتورية"، كما لو أن الديكتاتور في العراق محصور فقط في شخص "صدام حسين"، وهو تصريح غريب ومثير للتساؤل، رغم أنه مر مرور الكرام في وسائل الاعلام وفي اوساط الرأي العام العراقي.
هذه القراءة للواقع، سبق وأن صرّح بها زعماء آخرون في الشرق الاوسط لا يقلون قوة واقتدارا من المالكي مع فارق الوضع السياسي والاقتصادي لبلدانهم، فقد رسموا لشعوبهم طرق حريرية نحو التقدم والازدهار، وأن الخير والبركة إنما تنزل بفضل وجودهم، بيد أن الايام تكفلت بالتأكيد على أن المناهج التي اتبعوها في سياساتهم الاقتصادية والتنموية والامنية، هي التي سلبت الخير والبركة من هذه الشعوب ودفعتها للبحث عن البدائل حتى وإن كان بخوض المجهول علّهم يجدون الافضل لحياتهم.
ولعل الانقلابات العسكرية والسياسية في ذاكرة المواطن العربي خاصة، وفي البلاد الاسلامية بشكل عام، جعلته يستحضر دائماً خيار الاطاحة بهذا الحاكم وذاك النظام ليتخلصوا من كل شيء، كما حصل في مع نظام صدام في العراق عام 2003 وبقرار خاص من الادارة الاميركية، ومع وجود هذا الخيار على طاولة المعنيين في العواصم الكبرى، بيد أن التجارب تدلنا أن هؤلاء ربما لا يفكرون دائماً بإرسال ابنائهم وأموالهم وقدراتهم لتحرير شعوبنا من الديكتاتورية والحرمان والتخلف، فهل تلتقي مصالحهم دائماً مع هذا المطلب الذي تفكر به الشعوب دائماً؟
ولذا فانهم يفكرون ايضاً بما يمكن تسميته بالازمات المستدامة، وليس خيار قلب نظام الحكم، وقد أجاب الرئيس الاميركي الاسبق جورج بوش على سؤال حول أحداث العنف التي اجتاحت العراق بعد الغزو الاميركي الذي قاده هو، فأجاب بنبرة استخفاف مع ابتسامة صفراء: "طبعاً... العنف لن يتوقف في العراق".
واذا نظرنا الى خلفية الاوضاع الراهنة في سوريا، نجد في الاسباب الحقيقية المؤدية الى كل هذا الدمار الهائل والحرب المستدامة مع استمرار وجود نظام الحكم في سوريا، ما ينبهنا نحن في العراق، الى ضرورة عدم الاسترسال مع الازمات والمشاكل الموجودة وتطبيع الناس بها، كما لو أنها أمر واقع، فهي؛ وإن يجاريها الناس لتمرير حياتهم اليومية مع الابتعاد عن المزيد من المشاكل والتعقيدات، ولكنها تبقى مثل الفيروس الصغير الذي يستفحل بمرور الزمن ليتحول الى عامل فتك بجسد المجتمع والبلد بأكمله.
في دراسة قدمها الدكتور أحمد العجلان، الباحث في معهد العلوم السياسية بجامعة مونستر بالمانيا، يبين كيف أن الرئيس السوري بشار الأسد أراد البدء بإصلاحات اقتصادية بسلسلة تغييرات جذرية في النمط الحاكم ونقل سوريا من النظام الاشتراكي القائم على اقتصاد الدولة وتوزيع الرواتب على الموظفين والعمال، وربط لقمة عيش الناس بالدولة، الى اقتصاد وصفه بـ "اقتصاد السوق الاجتماعية"، واراد التخلّص من الترهل الاقتصادي طيلة الثمانينات والتسعينات ، وينهض بالاقتصاد السوري الى النمو والتطور، من خلال التقرّب الى النمط الرأسمالي وإطلاق يد أصحاب الرساميل وتشجيع القطاع الخاص على حاسب الطبقة الفقيرة التي تسكن الارياف بالدرجة الاولى، والتي كانت تعيش على "خيرات" الحكومة طيلة عقود من الزمن، وهو بذلك يكون كمن حلّق بمروحية ثم يريد الهبوط بمروحية أخرى، كما عبّر الكاتب المصري الراحل ذات مرة؛ محمد حسنين هيكل.
وبينت الدراسة الأخطاء التي وقع فيها الرئيس السوري وهو فطريقه الى الإصلاحات فقادته اجراءاته الى تفاقم الازمات أكثر ومن ثمّ الانفجار الكبير، فعلى الرغم من "نجاح سياسة الأسد في توفير السيولة النقدية ،بعد اعتمادها منهج الخصخصة ، لم تعمل على إصلاح الأضرار الناجمة عنه، لاسيما في المناطق الريفية وفي المدن الصغيرة ، حيث تشير الإحصاءات، "أن نسبة الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في الأرياف السورية، تزيد عشر أضعاف عن نسبتهم في المدن"، ولعل هذا ما يفسر لنا سر وقوف مراكز المدن السنية الكبيرة إلى جانب نظام الأسد؛ فسياسة الأسد خلال سنوات حكمه العشر قبل الثورة كانت متوجهة بالمنفعة على المدن السورية وعلى حساب الأرياف"، ويصف الكاتب الاحتجاجات التي انطلقت في الايام الاولى في سوريا بأنها "ثورة المهمشين والمحرومين على المدن التي لا يملكون منها شيئا".
ومن أجل ضمان ولاء الارياف وعدم تضررهم بسياساته الإصلاحية الجديدة، اعتمد الرئيس السوري، وفق هذه الدراسة على "سياسة تصالحية خاطئة مع رموز الأقطاع القديم، الذين يضمرون لحزب البعث كل الكره بعد أن وزع ممتلكاتهم على صغار الفلاحين في الستينات من القرن الماضي، ولأن بشار الأسد لا يستطيع العودة عن سياسة توزيع الأرض على العمال الزراعيين التي انتهجها بشكل خاص في منطقة الجزيرة السورية (الرقة - الحسكة - دير الزور)، حيث وزعت مئات الاف الهكتارات من الأراضي الزراعية في مشاريع عديدة مثل المشروع الرائد، وحوض البليخ، والفرات الأوسط، ومشاريع إسكان، وغيرها، قرر الأسد التعويض لرموز الأقطاع وأبنائهم الذين لم يخفوا معارضتهم الشديدة لتوزيع أراضيهم على العمال الزراعيين بأن سلمهم الكثير من إدارات المحافظات القضائية و الصحية والتعليمية، فما كان من هؤلاء إلا أن طفقوا يمارسون الظلم والفساد كوسيلة لتعجيل في انهيار حكم الأسد".
إن ارتفاع نسبة البطالة والفقر، وتفشي الفساد الاداري، حتى في أرفع المستويات، ليس بالضرورة ان تؤدي الى انهيار النظام السياسي الحاكم، وفي العراق، حصل ما هو أكثر، حيث وجد العراقيون لسنوات من عمرهم في ظل النظام الديمقراطي، يفقدون الأمن على حياتهم، فالسيارات المفخخة والانتحاريين كانوا في كل مكان، هذا الى جانب استفحال الطبقية وتفشي الفساد الاداري، والأنكى منه الفساد المفضوح في قمة السلطة، حتى بات الناس يتداولون بسخرية عن وجود وزير او نائب او مسؤول في الدولة يتحلّى بالنزاهة والأمانة والصدق.
هذه الازمة المستدامة نراها تكاد تندمج مع الحياة الطبيعية للعراقيين، حتى بات المواطن لا يكترث بعدم وجود نظام صارم للمرور في الشارع، ولا الطالب الجامعي يفكر كثيراً في تحقيق النجاح بالامتحانات مع امكانية الدفع لهذا وذاك ثم التخرج بشهادة تمكنه من الحصول على وظيفة وفرصة عمل، وهكذا الامثال لا تُعد، بيد أن كل ذلك يمثل نار تحت الرماد، او بركان قابل للانفجار في أي لحظة، الامر الذي يتوجب على الشريحة السياسية في العراق، وتحديداً الكتل السياسية المتحفزة لخوض الاستحقاق الديمقراطي الجديد، بالتفكير في وضع حلول ممنهجة وتدريجية لكل الثغرات الموجودة، قبل التفكير بعدد الاصوات التي سيحصلون عليها وتوصلهم مرة اخرى الى المناصب والامتيازات.
اضف تعليق