برغم أن الاستعمار والاستبداد مختلفان باختلاف الغرب والشرق، إلا أن هذين النسقين المختلفين في الفكر والثقافة، يشكلان وجهين لعملة واحدة، هي تعريض كرامة الإنسان إلى الهدر ودفعه نحو الانحطاط، حتى بات عالمنا اليوم يعاني من أقصى درجات التحكم والاحتكار...
ربما يحاجج بعضهم باندثار الاستعمار ودفنه في مقبرة التاريخ، ولا تأثير له في عالم اليوم، لأنه انتهى منذ قرن تقريبا، لكن أحداث العالم الحاضرة، تُجزم بأن الاستعمار يتحكم اليوم بالعالم عبر كمّاشة النتائج التي خلّفها، بالإضافة إلى الشكل الاستعماري الجديد عبر (الثقافة، والاقتصاد)، لذلك فإن النزعة الاستعمارية تتجسد في سياسات الغرب ومخططاته حتى لو تمّ تمريرها بأغطية إنسانية لكن الحقائق المشعّة لا يمكن تغطيتها بغربال الزيف أو الإدّعاء.
الاستعمار بحسب معنيين هو ظاهرة تهدف إلى سيطرة دولة قوية على دولة ضعيفة وبسط نفوذها من أجل استغلال خيراتها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي بالتالي نهب وسلب لمعظم ثروات البلاد المستعمَرة، فضلًا عن تحطيم كرامة شعوب تلك البلاد وتدمير تراثها الحضاري والثقافي، وفرض ثقافة الاستعمار على أنها الثقافة الوحيدة القادرة على نقل البلاد المستعمَرة إلى مرحلة الحضارة، ويسمى سكان البلاد المستعمَرين، وتسمى الأراضي الواقعة تحت الاحتلال؛ بـ البلاد المستعمَرة، ومعظم المستعمرات مفصولة عن الدولة المستعمِرة ببحار ومحيطات، وغالبًا ما ترسل الدولة الأجنبية سكانًا للعيش في المستعمَرات وحكمها واستغلالها مصادر للثروة، وهذا ما يجعل حكام المستعمَرات منفصلين عرقيًا عن المحكومين.
كما يقع الاستعمار على نوعين النوع الأول: الاستعمار القديم، أو الحركة الاستيطانية التي قامت بها أوروبا منذ بداية العصور الحديثة حين اندفعت بعض الدول الأوربية في القرن السادس عشر للغزو والاستعمار في قارات آسيا وأفريقيا والعالم الجديد، الأمريكيتين واستراليا، وقد ظهر هذا النوع من الاستعمار نتيجة لانفتاح أوروبا على العالم الخارجي وحب المغامرة والاستكشاف والبحث عن الثروة والذهب ومحاوله تخلص البعض من الاضطهاد الطائفي والسياسي في أوروبا.
أما النوع الثاني: فهو الاستعمار الحديث، وقد ظهر هذا النوع بعد قيام الثورة الصناعية في أوروبا في القرن التاسع عشر, حيث بدأت هذه الدول تبحث عن الأسواق لتصريف منتجاتها وكذالك البحث عن المواد الأولية المتوفرة في آسيا وأفريقيا ولاستثمار رؤوس الأموال الأوربية الفائضة. ولا تزال تداعيات الاستعمار تفعل فعلها حتى اللحظة، نظرا لأن جذوره التي نبتت في بنية الغرب الاجتماعية والسياسية، لا تزال تمد هذا النسق من التفكير والسلوك في العقول الحديثة التي تفصلها قرون وقرون عن لحظة اندلاع الاستعمار العسكري، وقد شكّلت أشكال وأنواع الاستعمار القديم والحديث إحدى كماشتين تسيطران على العالم وتتحكمان به، أما الكماشة الثانية وهي لا تقل خطورة عن دور الاستعمار الغربي في تدمير العالم، فهي كماشة الاستبداد.
فالاستبداد كمفهوم متداوَل، يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه، ومن هنا جاءت عبارة أو مقولة: (إنما العاجز من لا يستبد)، هذا هو معنى الاستبداد عندما يقرن بـ العدل الذي يفقد فعاليته مع العجز عن تطبيقه، أما الاستبداد من دون عدل فهذا هو الطغيان، الذي تميز به الشرق مثلما تميز الغرب بالاستعمار، فكلاهما يكملان بعضهما من أجل مسخ شخصية العالم، وجعله تحت السيطرة، والذهاب به إلى هاوية الدمار، بعد أن أوغل الغرب بحصر الثروات الطبيعية العالمية وتراكمها لدى القلة من الأفراد والشركات، فيما تعصف المجاعات والفقر والحرمان والجهل والمرض بنسبة كبيرة من سكان العالم.
وقد فُسِّر الاستبداد أو تم تعريفه في معجم لسان العرب بالتالي: استبد بفلان، أي انفرد به دون غيره. أما المعجم المنجد في اللغة العربية المعاصرة فيعرف كلمة استبد: حَكم بأمره، تصرف بصورة مطلقة، غير قابل الاعتراض. كما يعرف نفس المعجم كلمة استبداد بأنها: تعسف، تسلط، تحكم. ويورد المعنى الثاني: ظلم، فرض الإرادة من دون مبرر. أما موسوعة السياسة، فتورد تعريف استبداد على أنه: حكم أو نظام يستقل بالسلطة فيه فرد أو مجموعة من الأفراد دون خضوع لقانون أو قاعدة ودون النظر إلى رأس المحكومين. وتضيف الموسوعة تعريفا لمحمد عبده لنفس الكلمة: المستبد عرفا من يفعل ما يشاء غير مسؤول ويحكم بما يقضي به هواه. أما في التعريف الغربي فكلمة المستبد (despot) مشتقة من الكلمة اليونانية "ديسبوتيس" التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل. ثم خرجت من هذا النطاق الأسري، إلى عالم السياسة لكي تطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة.
ولكن يبقى الاستبداد كسلوك شرقيا أكثر مما هو غربي، بالأخص في التاريخ الحديث، فتشير جميع الأسانيد المرتكزة على إدارة السلطة بأن الشرق مستبد ليس في السياسة وحدها، بل في جميع ميادين الدولة والمجتمع، بدءا من سلطة الأب في الأسرة، مرورا بسلطة المسؤول من أي نوع كان، صعودا إلى سلطة الحاكم المستبد الذي رضع الاستبداد من بيته وتناوله مع حليب تربيته الأسرية والمدرسية والاجتماعية، فالمجتمع الشرقي يجد في الاستبداد متعته والكثير من غاياته، ويمثل له الاستبداد إشباعا لفراغات وعاهات نفسية مريرة لا يمكنه معالجتها إلا عبر الطغيان، خصوصا الحكام الجبابرة الذي حكموا شعوبهم بالنار والحديد.
وبرغم أن الاستعمار والاستبداد مختلفان باختلاف الغرب والشرق، إلا أن هذين النسقين المختلفين في الفكر والثقافة، يشكلان وجهين لعملة واحدة، هي تعريض كرامة الإنسان إلى الهدر ودفعه نحو الانحطاط، حتى بات عالمنا اليوم يعاني من أقصى درجات التحكم والاحتكار، لاسيما أن الغرب بدولهِ وسياساته، يندفع بقوة تحت ضغط غرائزه المدفوعة برغبات النهب والسلب للثروات والأموال وكل ما يديم سيطرة القلة على ثروات العالم.
في وقت مماثل يحتفل الشرق بثقافة الاستبداد ويحتفي بها، بالأخص جماعات الحكم والسلطة، فهؤلاء لا يأبهون بشعوبهم، وما يهمهم بالضبط، كيف تبقى السلطة والقوة والمال تحت تصرفهم، وليذهب الجميع إلى الجحيم، وهكذا تلتقي النزعتان، ونعني بهما النزعة الاستعمارية المتعطشة للنهب والقتل والاحتلال بأشكاله المتعددة، ونزعة الاستبداد المغرمة بالحكم، والمندفعة نحوه بعيدا عن الشرعية التي لا يمنحها سلاطين الغرب ودكتاتوريوه أية أهمية تُذكَر، وبهذا تصبح النزعتان متعاونتين فيما بينهما لتدمير الجنس البشري، وهو ما يلوح في المستقبل، إذا لم تظهر العقول والأفكار التي تنظّف العالم من هاتين النزعتين المدمِّرتين.
اضف تعليق