وما هذا التسارع الغريب والاحتفال المستدام بالذكاء الصناعي، إلا نوعا من الإصرار على الفناء الذاتي، يساعد عليه بقوة تعزيز الأنانية والفردية وتضخيم النرجسية وتزايد هذه الصفات الفنائية يوما بعد آخر، ولعل المشكلة الأخطر، هي عدم القدرة على التوقف عند نقطة معينة، فليتنبّه المعنيون إلى هذا الخطر الداهم على انسان الغد.
في كل منجز بشري جيد، وفي أي مجال كان، لابد أن يحمل معه ما يسيء للبشر وإنْ كان في ظاهره وجزء من محتواه، يمثل محتوىً جيدا يزيد من رفاهية الإنسان ويجعل من الحياة أسهل بكثير عمّا كانت عليه قبل الابتكار، وقد تقبّل الإنسان مساحة الإساءة، ولكن قد لا يكتشف بأن هذه مساحة الضرر وخطورتها، فيبقى في حالة من الوهم، ينظر إلى المنجز المبتكَر على أنه أحد المنجزات التي أسهمت في دفع حياة البشرية إلى أمام، وقد تنطبق هذه الرؤية على الذكاء الاصطناعي.
الخطير في الخيال الفكري للإنسان إذا اساء استخدامه والاخطاء واردة في كل الأحوال، لذا يجب كبح جماح غرور رغبات النفس وعدم إطلاق العنان لها هو الحل الأفضل لتحكم الانسان بذاته، هذا ليس نظرة تشاؤمية لغد الإنسان بل هو المعيار الصحيح لتحكم الأنسان بذاته وبرغباته المتهورة في بعض الاحيان، حيث أن النتائج الجانبية غير المحسوبة قبل أي الابتكار، تحمل معها مساوئ قد يكون بعضها خطيرا، بالأخص عندما يعزز الفردية، ويرفع من مستوى وضخامة الفردية.
يعرف جون مكارثي (John McCarthy) الملقب بأبي الذكاء الاصطناعي هذا المفهوم على أنه "علم هندسة الآلات الذكية، وبصورة خاصة برامج الكمبيوتر"، حيث إنه يقوم على إنشاء أجهزة وبرامج حاسوبية قادرة على التفكير بالطريقة نفسها التي يعمل بها الدماغ البشري، وتحاكي تصرفات البشر.
وبهذا المعنى، فإن الذكاء الاصطناعي هو عملية محاكاة الذكاء البشري عبر أنظمة الكمبيوتر، فهي محاولة لتقليد سلوك البشر ونمط تفكيرهم وطريقة اتخاذ قراراتهم؛ إذ تتم دراسة سلوك البشر عبر إجراء تجارب على تصرفاتهم ووضعهم في مواقف معينة ومراقبة ردود أفعالهم وأنماط تفكيرهم وتعاملهم مع هذه المواقف، ثم محاولة محاكاة طريقة التفكير البشرية عبر أنظمة كمبيوتر معقدة.
وعلى الرغم من هذا، فإنه لا يمكن أن يطلق هذا المفهوم على أي قطعة إلكترونية تعمل من خلال خوارزمية معينة، وتقوم بمهام محددة، فلكي نطلق هذا المصطلح على نظام إلكتروني لابد أن يكون قادراً على التعلم وجمع البيانات وتحليلها واتخاذ قرارات بناء على عملية التحليل، بصورة تحاكي طريقة تفكير البشر، وهو ما يعني ضرورة توافر ثلاث صفات رئيسية هي:
1- القدرة على التعلم أي اكتساب المعلومات ووضع قواعد استخدام هذه المعلومات.
2- إمكانية جمع وتحليل هذه البيانات والمعلومات وخلق علاقات فيما بينها، ويساعد في ذلك الانتشار المتزايد للبيانات العملاقة (Big Data).
3- اتخاذ قرارات وذلك بناء على عملية تحليل المعلومات، وليس فقط مجرد خوارزمية تحقق هدف معين.
الجدير بالذكر أيضا هو أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي بأشكاله المختلفة ومراحله المتعددة تستمر في التطور والدخول في تطبيقات حياتنا اليومية شيئا فشيئا، ويمكننا رؤية ذلك في طريقة تعامل هواتفنا مع الأمور أو في برمجيات الذكاء الاصطناعي في هواتفنا.
ويعد الذكاء الاصطناعي قاطرة التطور البشري القادم، فلا يمكن إغفال المميزات التي يقدمها لخدمة البشر على كافة المستويات الشخصية والطبية والصناعية والتجارية، بل أن تطويره في كثير من المجالات يهدف في الأساس إلى حماية البشر والحفاظ على أرواحهم، مثل استخدام الإنسان الآلي في الأعمال الشاقة والخطرة وفي ميادين المعارك العسكرية، كما أنه قادر على متابعة الحالة الصحية للمرضى وتوفير المساعدة لذوي الإعاقة ومراقبة المنازل والمؤسسات من عمليات السرقة والاعتداء وغير ذلك من الاستخدامات الضرورية.
في المقابل توجد العديد من التداعيات السلبية المترتبة على تصاعد الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتنقسم إلى تهديدات: أمنية، واجتماعية، واقتصادية، وإنسانية، وقانونية، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:
1- تهديدات اقتصادية: سوف تؤثر هذه التقنيات على حجم ونوعية الوظائف وفرص العمل المتاحة، حيث من المتوقع أن يؤثر الروبوت بالسلب على الوظائف في مجال الصناعات التحويلية وصناعة السيارات والأدوات الكهربائية، بالإضافة إلى خدمة العملاء.
2- تهديدات أمنية: أحد التداعيات الخطرة التي تطرحها تقنيات الذكاء الاصطناعي هو تهديد هذه التقنيات حق البشر في الحياة، ويتضح ذلك في حالة الأنظمة القتالية المستقلة (Lethal Autonomous Weapons) مثل الدرونز التي تحمل أسلحة، أو الروبوتات المقاتلة الموجودة، حيث تكمن الخطورة هنا في أن هذه الأجهزة مصممة من أجل التدمير أساساً، فماذا يحدث إذا وقعت في يد الشخص الخطأ، أو تم اختراقها نتيجة لقصور أو خطأ بشري في إجراءات التأمين وتم التلاعب بالخوارزميات التي تتحكم فيها، فهنا سوف تكون النتائج كارثية.
3- تداعيات اجتماعية: تؤدي زيادة الاحتكاك مع الآلات إلى انفصال البشر تدريجياً عن محيطهم الاجتماعي البشري، وهو ما يٌفقد العلاقات الإنسانية مرونتها التقليدية، ويجعلها أكثر صلابة وجموداً، فتتحول طرق التفكير والتفاعلات البشرية من التعقيد المفيد، إلى التنميط ولو كان منتجاً، ويصبح الهدف من العلاقات الإنسانية مادياً بعدما كان معنوياً بالأساس.
وبعض العلماء صرّحوا بأن المساوئ القادمة أو غير المكشوفة قد تكون أسوأ من الظاهرة بكثير، ليس من باب التخويف، ولكن هذا واقع الحال، وقد تدخل هذه الفعاليات بنمطيها المفيد والإشكالي في نظام أو دائرة ما يسمى بالذكاء الصناعي، حيث تتم مصادرة قدرات الإنسان ليتم تحويلها إلى الآلة ولتنتهي النتائج إلى الاستغناء عن مؤهلات الإنسان بعد أن صنّعا الإنسان نفسه ونقلها إلى دائرة الذكاء الصناعي الطارد لمواهب البشر وقدراتهم.
إن الإنسان في سعيه للحصول على حياة أفضل وأكثر رفاهية، يخترع كل يوم أشياء يتنبه فيما بعد أنه تأخذه إلى نهاية مأساوية. والدخول بالعالم إلى معترك الذكاء الصناعي ودعم ذكاء الآلات وأجهزة الإنسان الآلي يأخذنا بسرعة فائقة نحو نهاية قد تكون على أيدي المارد الذي أخرجناه من القمقم.
إذاً هذا العالم الذي نقطنه يمضي إلى أمام بقوة، حاملا معه أنماط عيش غريبة، لكن الأغرب منها أن الإنسان نفسه هو مصدرها، حتى قيل أن البشرية في طريقها إلى تعطيل قدراتها وتدمير مؤهلاتها، لينتهي الأمر إلى الفناء الذاتي، أي تدمير الإنسان لنفسه بنفسه.
وما هذا التسارع الغريب والاحتفال المستدام بالذكاء الصناعي، إلا نوعا من الإصرار على الفناء الذاتي، يساعد عليه بقوة تعزيز الأنانية والفردية وتضخيم النرجسية وتزايد هذه الصفات الفنائية يوما بعد آخر، ولعل المشكلة الأخطر، هي عدم القدرة على التوقف عند نقطة معينة، فليتنبّه المعنيون إلى هذا الخطر الداهم على انسان الغد.
اضف تعليق