q
تشارك الفاشية بكل عناصرها مع كل أشكال الدكتاتورية التي تعتمد جاهزية الكلمات وسطحيات التعامل اللفظي في تناول القضايا الكبرى، فالنصوص المؤسسة للخطاب الدكتاتوري تستند الى معجم فقير وبسيط التركيب ويتجنب أدوات الفكر المركب والنقدي وفق ايكو، وهنا يصل ايكو الى تحذيره وتلويحه بالاستعداد...

ألقى الكاتب الايطالي أمبرتو ايكو محاضرة في جامعة كولومبيا – نيويورك بتاريخ 25 أبريل 1995م، وتعرض ايكو في محاضرته تلك الى إمكانية أو هل من الممكن أن تعود الفاشية من جديد؟ ثم نشر تلك المحاضرة في مقال في كتاب له بعنوان "دروس في الاخلاق" ترجمة سعيد بنكراد.

ولعل مناقشة أجواء المحاضرة في هذه الجامعة الاميركية وتاريخ القائها يحمل دلالة مهمة بالاتجاه الذي تسير به أفكار ايكو واستشرافاته لمستقبل النظام السياسي الاميركي.

فإيكو هو كاتب أوربي ينتمي الى حقبة مهمة من تاريخ أوربا المعاصر، فهو قد عاش تجربتين أوربيتين متناقضتين بشكل كلي وبمضمون جوهري، عاش تجربة الاستبداد وتجربة الديمقراطية، عاش التجربة الفاشية في ايطاليا في بدايات تكوينه النفسي والثقافي وطالما تحدث عن هذه التجربة، ثم عاش التجربة الديمقراطية بعد سقوط الفاشية وقد تداخلت نهايتها في نهاية الحرب العالمية الثانية مما سمح لإيكو أيضا أن يعيش تجربة الحرب وتجربة السلام، وكانت الاخيرة تتداخل بقوة في تكوينه ونضجه السياسي والفكري.

هكذا يغدو ايكو خلاصة تجربة أوربا المعاصرة بإزاء تجربة اميركا الاكثر تداخلا وتدخلا في التحولات التاريخية التي يشهدها العالم المعاصر، لاسيما في ظل نظام القطب الواحد الذي روجت له أدبيات العولمة بقوة في تسعينات القرن العشرين وفي منتصف هذا العقد كان ايكو يتحدث حول الفاشية الأبدية الذي هو عنوان محاضرته تلك وهو يتلمس المقاربة الخطيرة بين ايديولوجيا القطب الواحد والفاشية المركبة في نظامه.

من جانب آخر كانت خصوصية الطرح أمام جمهور أميركي متعلم –جامعي يحمل دلالة أخرى في مضمونها إستشرافية من جانب ايكو حول مستقبل النظام السياسي في اميركا التي بدت مهتمة في حينها بالسعي الى كسب العالم لصالح نموذجها السياسي– اللبرالي، لاسيما وأن ايكو يعبر في حديثه عن تجربته تلك عن الصورة الاولى التي تلقاها عن المحررين الاميركيين وينقل انطباعاته عن هؤلاء الجنود والمفاجآت التي حملتها لحظة اللقاء الاولى في تغيير الصورة النمطية الراسبة لديه عن تجربة الاستبداد السياسي، لاسيما عن أبدية الحرب التي غرستها في ذهنه الفاشية الايطالية باعتبار الحرب الشرط الضروري في حياة الشباب الايطالي ولذلك كان وقع السلم عليه غريبا كما يقول هو وفي موضع آخر.

كان ايكو يقول أنه عرف الحرية في صبيحة هذا اليوم حين رأى عدد الصحف التي صدرت في ذلك اليوم الذي أعلن فيه رسميا انتهاء الحرب، ويروي ان ذكاءه الفتي كان يقوده الى القول بان هذه الصحف لم تظهر فجأة وانما كانت تتداول بشكل سري لكنها ظهرت اليوم وظهر معها لديه معنى الحرية، وفي محاولة وجدانية وفكرية للانتماء الى أوربا الحرة وليست المستبدة يروي كيف كان كأوربي قد ادرك الدلالة النفسية والاخلاقية للمقاومة، وأنه شعر بان الأوربيين لم ينتظروا التحرير بل لجأوا الى مقاومة الفاشية مبكرا.

وفي ذاكرته التي يستعرضها أمام الطلبة الأمريكان وهو يعيد استعراض أيام صباه في ظل الفاشية الايطالية، فانه يسعى في استحضار خلاصة تجربته الى اشراك الطلبة الاميركيين في نتاج تجربته، محذرا وملوحا بإمكانية عودة الفاشية في أميركا رغم انه لم يصرح بذلك لكنها استشراف ضمني يقبع بين ثنايا سطور مقالته أو كلمات محاضرته.

انه يؤكد على استحالة عودة الفاشية "بالشكل نفسه ضمن شروط تاريخية مختلفة" مما يفسح المجال أمام عودتها بأشكال أخرى لكن ضمن شروطها التاريخية مرة أخرى، الا أنه يعتقد باستحالة عودة النازية بنسختها الأصلية التي تكون "قادرة على جذب امة بكاملها" ومن خلال ما يستعير له وصف العادات اللسانية يتوغل ايكو في خلفية الكلام الاميركي الذي اهتم بتداول كلمة الفاشية وتصنيف الحرب العالمية بانها حرب على الفاشية دون استعمال ذلك في التصنيف في توصيف المقاومة، وهو بذلك يحيل الى نقطة اساسية وجوهرية في ذلك الاهتمام الكلامي – اللساني بالفاشية قد نعثر عليه في ثنايا الحديث.

فالفاشية التي لم تكن فلسفة نسق ولم تكن ايديولوجيا منظمة وفق اعتبارات قيم خاصة بها جدا ولم تكن مؤسسة على مبادئ حادة في تعريفها وانما كانت سلوكا عنصريا أكثر منه مبادئ ولذلك لم يكن لديها برنامجا سياسيا منظما يستند الى مقالات ايديولوجية وفلسفية واضحة ومحددة، لم تكن اطارا جادا وحازما لمجموعة من الافكار التي تتحرك باستقامة الحرفية والجاهزية المعرفية، او المعرفة الجاهزة للإجابة على كل سؤال أو استدراك كما نفهم ذلك من خلال توصيف ايكو للفاشية، انها لم تكن كالنازية فلسفة قوة وارادة وإلحاد وبرنامج عمل سياسي تطورت عن المعرفة الفلسفية الالمانية استنتاجا عن ايكو، وهذا ما يجعل الفاشية قابلة للأبدية وقابلة للعودة بتلك المضامين التي تقبع بين سطور مقالته وفي كلمات محاضرته ونستشف ذلك في قولته "لقد تحولت الفاشية الى مفهوم قابل للتكيف مع كل الوضعيات"، ولأنها مفهوم قابل للتحول هو ما يمنحه قدرة العمل كطفيلي يستمد وجوده وبقائه من الجسم الذي ينمو به وعليه، والطفيلي هو كائن بدائي، ولذلك نجد ايكو موفقا بوصف الفاشية بالبدائية أو الاصلية لكنه يضع شرط الأبدية فيها أي الامكان الأبدي في عودتها بعد أن تتوفر خصائصها أو بعض خصائصها بل خاصية واحدة تتكفل في حالة توفرها بصنع سديم فاشي وفق ايكو.

أما مجموع خصائصها من وجهة نظر ايكو فهي:

عبادة الذات والنزعة التقليدية المضادة للعالم الحديث واللاعقلانية المرتبطة بذاتية الفعل، فالمهم هو الفعل وعدم قبول النقد، فالاختلاف خيانة، والاجماع هو الشرط وفيه تتولد العنصرية الفاشية لأن العنصرية تتأسس في الايمان بالاختلاف الجوهري وليس الثقافي بين الأجناس، ثم يدخل عامل الكبت الفردي واستجابة الكبت الجماعي له في جوهرانية الفاشية وهو ما يسوغ سياسة القطيع في أنظمة الفاشية، وهو ما يؤثر في مصدر سيكولوجية الفاشية في هوس المؤامرة، ولذلك فالأعداء حاضرون دوما في ذهنية القطيع في ظل الانظمة الفاشية، والحياة في نظر الفاشية هي حلبة صراع بذاتها وليس صراع من أجل الحياة، وهو ما يبرر رغبتها الدائمة في الحرب، وتتكأ النخبوية فيها وبإطارها الشعبوي على مفهوم احتقار الآخر، والرغبة في الحرب والنخبوية الشعبية تصنع نوعا من البطل الاستثنائي في الفاشية، وأخيرا تنتج كل تلك الخصائص في الفاشية ظاهرة الفحولة التي تبدأ في صوت الزعيم باعتباره الصوت المعبر عن الجميع عن الشعب بما هو كتلة واحدة، قطيع يسير باتجاه الصوت، وهنا يتحول الشعب الى لعبة ممارسة أو بالأحرى الشعب مدعو الى ممارستها وفق ايكو.

وهنا يخلص ايكو الى تشارك الفاشية بكل عناصرها مع كل أشكال الدكتاتورية التي تعتمد جاهزية الكلمات وسطحيات التعامل اللفظي في تناول القضايا الكبرى، فالنصوص المؤسسة للخطاب الدكتاتوري تستند الى معجم فقير وبسيط التركيب ويتجنب أدوات الفكر المركب والنقدي وفق ايكو، وهنا يصل ايكو الى تحذيره وتلويحه بالاستعداد على التعرف على أشكال أخرى مما يسميها لغة النيوزيك التي يتشكل فيها الخطاب السياسي للدكتاتورية وهي اللغة التي اخترعها الكاتب البريطاني أورويل في روايته عام 1984م على ما يقول ايكو.

قد تبدو صورة الرئيس ترامب واضحة من خلال تلك الخصائص في الفاشية التي يعرض لها ايكو قيل أكثر من عشرين سنة من صعوده الى الحكم واستشرافه لمستقبل النظام السياسي الاميركي، لاسيما وان تحذيره وتلويحه بإمكانية عودة الفاشية بدا واضحا في نهاية محاضرته حيث يقول "ان الفاشية الاصلية موجودة دائما بيننا"، ثم يذكر الطلبة الاميركيين بقول روزفلت "اذا توقفت الديمقراطية الاميركية عن التطور كقوة حية... فإن الفاشية ستنمو في بلادنا"، وهو ما كان يريد أن يصل اليه ايكو في استشراف مستقبل النظام السياسي في اميركا.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق