q

لم نتيقَّنْ حتى اللحظة، كمسلمين أو كعرب، من ظاهرة تسيء لنا، وهي تجاهلنا للنظريات والطروحات التنظيرية التي قدّمها علماؤنا ومفكرونا في مجالات عدّة، فكرية، ثقافية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، علمية، فهذا التجاهل غير مفهوم حقا، بالأخص أن تلك الأفكار تنقذ المسلمين والعرب من أوبئة الجهل والغطس في وحل التخلف، وينقل مجتمعاتهم ودولهم من صفة الدول المتأخرة التي تسمى مجاملة بـ (النامية)، إلى المجتمعات والدول المتقدمة.

وانطلاقاً من فرضية أو مبدأ لكل شيء سبب، فإن البون الشاسع بين الدول المتقدمة والمتأخرة يحمل في طياته أسباب التناقض بين الطرفين، فالوصول إلى ضفة التقدم لا يمكن بلوغه إذا لم تباشر الدول بإزاحة العقبات الكبيرة، ومنها تقويض القومية، وعدم التمسك بالحدود الجغرافية، وإلغاء محاصرة الكفاءات الثقافية والصناعية، في حين أن الدول التي لازمت التخلف، كانت ولا تزال تمجّد القومية، وتتشبث بالحدود، وتقصي الكفاءات وترمي بها في أقفاص وزنازين الإهمال.

وقد رصد الإمام محمد الشيرازي هذه الفوارق بين الدول المتقدمة والمتأخرة، وقدّم ما ينبغي من معالجات وتنظيرات، في مؤلفات عديدة، منها كتابه المثمر المعنون بـ (كتاب السياسة)، ضمن مؤلَّف (الفقه)، يقول الإمام:

(إنّ سبب التناقض بين البلاد الصناعية وبين البلاد المتأخرة، والتي وصلت جملة منها إلى الاستقلال، يعود إلى أن البلاد الصناعية أخذت ترفض القومية، وتوسع الحريات الحدودية، وتسهل حركة الكفاءات، في مختلف المجالات الثقافية والصناعية والتجارية والاجتماعية ونحوها، بينما البلاد المتأخرة بعكس ذلك، تشدد على القوميات والإقليميات والحدود).

وقد جسَ الإمام الشيرازي نبض تلك الدول التي تقدمت في أشواط بعيدة، واستخلص عوامل تقدمها وانتقالها من التخلف إلى التقدم، وعرض استنتاجاته في مؤلَّفه (الفقه) لصنّاع القرار العرب والمسلمين، لكي يفيدوا من تجارب المتقدِّمين عليهم، وقد أبرزَ في نحوٍ حاسم معيقات الحدود الجغرافية، وغباء الحكومات في محوِها لدور الكفاءات في تحمّل عبء الانتقال من العتمة إلى الضوء.

فإذا حُجِتْ الكفاءات، وحُيِّدَ دورها، وتم التشبث باستماتة بأوهام الحدود وما تجسده للحكام المتخلفين من رموز للعظمة الفارغة، فإن الانتقال من الجهل إلى العلم سيغدو مستحيلا، وهذا يدعو إلى تهشيم حلقات الإعاقة هذه، في رفض حازم للمشاريع القومية ضيقة الآفاق، ونزع أوهام التشبث بالحدود من رؤوس الحكام الأنانيين، وفتح آفاق الأمكنة وتنشيط التزاور والتفاعل والتناقل الفكري الثقافي التجاري، في مدار المعنوي والمادي، هكذا سوف تلوح تباشير العبور من الظلام إلى محافل النور.

يقول الإمام محمد الشيرازي: (إن البلاد الصناعية تقدمت في رشدها الفكري، وعرفت أن التقدم إنما يكون بإطلاق الكفاءات، فأخذت تسير في اتجاه لتوسعة نطاق العمل، ومن الواضح أن كل الحدود المادية كالحدود الجغرافية، وما يسمى بالمعنوية كالحدود القومية، من أكبر العوائق للتقدم).

هذا الذي لم تدركه الدول والمجتمعات المتأخرة، فيما أدركته بجلاء الدول والمجتمعات المتقدمة، فباشرت بإزالة هذه العوائق الصمّاء، فالقومية لديها من أمراض الماضي الفتاكة، وبهذا عالجتها بحزم وفتحت أروقة وممرات الحدود لحرية الحركة في الميادين كلها، ثم أنها رعت بما لا يقبل التردد أو التوجس إمكانات الكفاءات، وفتحت لها كل الأبواب الإبداعية، ومنحتها الثقة والرعاية والمكافآت المجزية، وضمنت لها عيش مرفَّه، ووفرّت وسائل العلم والإيضاح والمختبرات، وقدمت كل أصناف وأنواع التمويل اللازمة، فجعلت الكفاءات في تتحرك وتنشط بحرية مدعومة في دائرة الإبداع، فكانت النتائج مذهلة.

يقول الإمام: (بعد أن أدركت الدول المتطلعة للتقدم وجوب إزالة تلك العوائق، أخذت تزيلها بخطى بطيئة، ولولا أنانية تلك الحكومات وتعاليها على الأمم الضعيفة، وعدم خروجها عن سباق التسلح، لكان السير في إزالة العوائق يتم بخطى سريعة).

ولعل حجر الزاوية بتقدم تلك الدول، يتجسِّد في شروعها الحازم بنزع السلاح عبر معاهدات واتفاقيات ثنائية أو محورية، لأن العلم والصراع الدموي لا يلتقيان، والحروب والإبداع يتنافيان، فعمدت الحكومات الرشيدة والدول المتنورة إلى نزع الأسلحة، حتى تكون أجواء السلام في رعاية الكفاءات، فالقلق لا يخدم التقدم ولن يسمح بتحفيز الإبداع، أما السلام فيتيح الانطلاق إلى أمام، فكانت دول التقدم متشبثة بالسلام، لكن بعض حكوماتها المصابة بالأنانية والتعالي على الدول الضعيفة أعاقت هذا الهدف في بعضها، وبعضها الآخر مضى في طريقه إلى القمة.

نجد هذا الرأي في قول الإمام: (لم تكن مسألة نزع السلاح، مسألة (سلام) فقط، بل هي مسألة (انطلاق) أيضاً، فإن السلام والانطلاق وجهان لعملة واحدة، حيث إن السلام لإزالة القلق، وحينما يزال القلق ينطلق الإنسان إلى أهدافه الرفيعة، وعليه فالسلام يؤمِّن الجزء السلبي، بينما الانطلاق يؤمِّن الجزء الإيجابي).

وفي وقت تقدمت هذه الدول باضطراد، بقيت الدول المتأخرة هاجعة في أمكنتها، لا تمتلك أي خيار بسبب تردّدها عن الولوج في عالم التقدم المبهر، لأنها لمّا تزل مطوَّقة بأسوار الانغلاق والقبلية، ومنشغلة بإنتاج التطرف، والتحجر الفكري، فكان وربما لا يزال الفكر وتجديده من القضايا الكمالية بالنسبة لهم، كأي شيء غير مهم في حياة الشعوب بحسب نظرة حكومات الدول المتخلفة، فقد أحاطت بها أسوار الخشية من الانطلاق ودخلت في حروب شعواء مع الكفاءات، وجعلت من نزعتها القومية قبلة لها ومدار تدور فيه في حلقة مغلقة لا ترى أية جدوى في الانفتاح على العالم، لأنها ترى في الفكر والكفاءة وضرب القومية تهديدا جسيما لأنظمتها المنغلقة على ذاتها وفكرها.

ويعبر الإمام الشيرازي أجدى التعبير عن هذه الصورة في تصويبه بالغ الدقة:

(أما البلاد المتأخرة أو التي تسمى مجاملة بالنامية، فإنها تمر في مرحلة الطفولة وحالة القبلية والانغلاق).

اضف تعليق