وجد مصطلح العملية السياسية رواجا في تداولاته السياسية والاعلامية في الدول التي بدأت تعيد ترتيب نسق وجودها السياسي والقانوني لاسيما في العراق وبعض الدول العربية، التي خرجت في أعقاب الربيع العربي وهي تعاني التفتت والانقسام السياسي والشعبي الحاد، وتشكل العملية السياسية وفق التعريف لها بانها قاعدة انطلاق الممارسات السياسية في الدول المعنية بالتزامها من أجل بناء نظام سياسي معين، لكنه يأخذ غالبا نظام ديمقراطي متعيّن تهدف اليه العملية السياسية.

والعملية السياسية تعبر عن توافق وتشارك أحزاب وكتل سياسية وجهات مستقلة على مجمل الوسائل والغايات الهادفة الى انجاز وبناء النظام السياسي، وقد تكون هناك اختلافات وتصورات متفاوتة لدى الاحزاب والكتل المشاركة في العملية السياسية، لكنها تؤمن في النهاية ان لا سبيل الى تجاوزها رغم بعض الدسائس المحتملة وغير المعلنة لغرض الاستيلاء المنفرد على السلطة، فالعملية السياسية مبرمجة أساسا لإجهاض مشاريع الاستيلاء المنفرد على السلطة، لكن من جانب آخر فان التخلي عنها أو الانسحاب منها يهدد هذا الحزب أو تلك الكتلة أو ذاك الطرف من الحرمان السياسي أو فقدان المبادرة التي تؤهله لقيادة جماعاته أو مجموعاته السياسية، وهكذا تفرض العملية السياسية كأمر واقع في ظل تعادل أو توازن نوعي يطغى نوعا ما على العلاقات السياسية ومعادل الحجم النوعي والكمي للأطراف المتشاركة في العملية.

وتعتمد العملية السياسية في الدول المعنية ببناء أنظمتها والمتعين فيها نظام ديمقراطي على القدرة وعلى القيادة المؤهلة للبناء واعداد البرامج والخطط السياسية والاقتصادية، وبلورة رؤى وتصورات قادرة على هضم المسار الذي تمر به الدولة في التحول نحو نظام حكم يجعل من العمل السياسي البديل الماثل عن اللجوء الى العنف او استخدام القوة غير المشروعة كالانقلابات على سبيل المثال، وهناك شرط اساسي في سيرورة العملية السياسية هو ان القائمين عليها قد خبروا مراحل من النضال والتجربة السياسية العملية في المطالبة بالحقوق ومواجهة النظام السياسي الذي كان يحاول أن يلغي تلك الحقوق ويطمسها، ويظل الجانب الشخصي والانساني الذي يشتمل على الوعي مهما جدا في تمثل هذه التجربة والعمل المناضل من أجل الشعب، ولعل واحدة من عوامل فشل العملية السياسية في العراق هو قصر أو انعدام هذه التجربة النضالية في تاريخ الكثير من الافراد والجهات التي تشارك بدور قيادي أو مسؤول في العملية السياسية الجارية في البلد.

فالتجربة السياسية تكسب السياسيين خبرة مهمة وقديرة في العمل السياسي وتصنع رؤى واستشرافات ممكنة في نطاق الخبرة وتجربة العمل، وافتقاد الطبقة السياسية لهذه التجربة النضالية، فسنوات النفي والمهجر والتي تشكل أغلب تاريخها المعارض وقصر سنوات المواجهة مع النظام الدكتاتوري أثّر كثيرا في مستواها السياسي في القدرة على المواجهة وادارة الأزمات.

كذلك أثّر نوع المشاركة السياسية التي تراوحت بين الطائفية والمناطقية التي جرت في البلد على مسار العملية السياسية باتجاهات لا تضمن او لم تضمن فعلا قدرتها على اداء دورها وانجاز مهامها، فالعملية السياسية تدخل في معادلتها المشاركة السياسية، والمائز بين المشاركة السياسية والعملية السياسية وهو تمييز اجرائي أكثر مما هو عملي، ان افراد وجهات المشاركة السياسية هي الجماهير العريضة التي تشغل دور الناخب بينما يشغل أفراد وجهات العملية السياسية دور المرشح في الانتخابات أو الترشح لأداء المهام والمسؤوليات السياسية والوطنية.

لكن قبل هذا تبدأ المشاركة السياسية من مراقبة القرارات وتتطور الى عملية صنع القرار السياسي، أو هي ممارسة سياسية يقوم بها المواطنون لغرض التأثير على صنع القرار ومتابعة ومراقبة تطبيقاته من أجل اصلاح مدخلات النظام السياسي القائم، أو تعديل مساراته نحو خدمة أو تنفيذ إجراءات المصالح الوطنية العليا والمصالح الخاصة بالطبقات ذات المطالب المحددة والمتعينة.

وتعتمد المشاركة السياسية بالنسبة لهذه الطبقات على مدى جدية وقدرة الاطراف والاحزاب المساهمة في العملية السياسية على تنفيذها وتطبيق القرارات الصادرة بخصوص مطالب هذه الطبقات، وقد تعني هذه المطالب الجماهير بكافة طبقاتها وشرائحها وحينئذ تكون المشاركة السياسية أوسع وأكبر، وقد تعني طبقات وشرائح محددة وحينئذ تكون المشاركة محدودة، وتأخذ المشاركة السياسية اجراءات متعددة منها التظاهرات والاحتجاجات لكن الأهم فيها هو الانتخابات التي تعني فاعلية المشاركة السياسية في تحقيق النتائج التي تطمح اليها الجماهير والشعوب ويحكمها نصاب الأغلبية المعبّر عن الأغلبية في المطالب الجماهيرية والشعبية، والحكم في تحديد الأغلبية المطلبية هو صندوق الاقتراع.

ورغم ان هناك بعض التعريفات للمشاركة السياسية تعتبر فيها دور المواطن او حقه في صنع القرار السياسي الا انها تأخذ مدى أوسع من حصرها بالمواطن، بل تتعدى الى توحيد صوت مجموعة من المواطنين تسعى الى التأثير في القرار السياسي، فالشرط في المشاركة السياسية أن تأخذ تلك الصفة العمومية والشعبية لهذه الممارسة السياسية، وهي وان كانت تتشكل من مبدأ حق المواطن في صنع القرار السياسي الا انها في واقعية التحقق والانجاز تتجاوز المواطن الفرد الى المواطنين الصانعين للنظام أو القرار.

وقد تؤثر الانشقاقات والاختلافات الحادة بين المواطنين في تحقيق النتائج المرجوة من المشاركة السياسية فإنها تضعف قدرة المواطنين او فاعلية الممارسة السياسية لهم في صنع القرار السياسي، وهو ما يؤثر في جدوى الانتخابات في العراق كإحدى اهم صور المشاركة السياسية في البلد، فالاختلافات الحادة و المتعددة المذهبية والسياسية والفئوية والحزبية تقف حائلا دون الاتفاق على تحديد وجهة نظر سياسية تنطلق من قاعدة في الهوية الوطنية تكرس المشاركة السياسية وبآلية التنافس الانتخابي باتجاه بناء نظام حكم سياسي يستند في سياساته الى قاعدة الهوية الوطنية.

فالمذهبية والفئوية التي تشتت الجانب الوظيفي والوطني في المشاركة السياسية تشتت بنفس الوقت القرار السياسي الذي تستهدفه العملية السياسية وتصنعه المشاركة السياسية، وحينئذ ترتبك المعادلة السياسية التي تبدو واضحة باختفاء برامج العمل السياسي وخطط البناء الوطني من على لوائح المرشحين للانتخابات في البلد أحزابا وكتلا وتحالفات سياسية، بل غاية ما تصنعه هو التركيز في الدعايات الانتخابية على الاستجابة العاطفية لتطلعات الجماهير نحو نظام يطمئن مخاوفهم الطائفية والمذهبية ويعدهم بالمزيد من الحرص الطائفي والمناطقي على حقوقهم المدعاة ويغلف اعلاناتهم بايهامات الانجاز بالقضاء على الفساد او في أحسن الأحوال وعود غير مدروسة او غير مصدقة ببرامج عمل واضحة الوسائل والاهداف نحو بناء دولة مدنية كما يتبناها تيار مدني حقيقي مما يزيد من ارتباك المعادلة السياسية في العراق.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2018Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق