من المسرحيات الرائعة التي قراتها قبل سنين، مسرحية تتحدث عن جندي ياباني طيب، في الحرب العالمية الثانية، لقّنه رؤساؤه دروسا في الوطنية وكيفية الصمود والتضحية من اجل الوطن. وقد تلقى هذا الجندي دروسه هذه برحابة صدر، كونه يحب وطنه اصلا ويعتقد بصحة موقف بلاده من الحرب ضد الاعداء. وكان واجب هذا الجندي المسكين في جزيرة نائية، لم تصلها اخبار هزيمة اليابان واستسلامها في تلك الحرب بعد ان تلقت قنبلتين ذريتين. وصار بعدهما هذا الجندي من ضمن المنسيات التي تحصل عادة في الظروف المشابهة لظروف اليابان المرتبكة، وقتذاك. وهكذا ظل وحده يعيش في تلك الجزيرة المعزولة سنينا عديدة قبل ان يتم العثور عليه حيا، لكنه رفض التسليم بحقيقة ان بلاده هزمت في الحرب، وان عليه ان يواصل صموده، او هكذا كان يقول للذين جاؤوا اليه من رؤسائه القدامى ممن لقنوه سابقا دروسا في التضحية والصمود، وهاهم يطلبون منه الاستسلام والانسحاب لان بلده خسر الحرب وانتهى كل شيء!
المسرحية تلك، كانت لها مقولة مهمة، خلاصتها ان القادة عادة ما يعبئون جنودهم باسباب العزيمة والصمود، لكنهم يجدون انفسهم في مأزق حين يصبحون امام معطيات واقعية، تفرض عليهم ان يتنازلوا عن كل تلك الطروحات، مثولا عند نتائج الحروب التي تقسم الجيوش عادة بين منتصرة ومهزومة. وهنا يكمن مأزق الانسان نفسه، الذي عليه ان يعترف بان الحروب لن تحل مشاكل البشرية بل انها عمّقت مأساة الانسان عبر التاريخ، او هذا ما اراد قوله كاتب المسرحية الرائعة تلك.
تدور اليوم معارك في عفرين السورية، بين فصائل كردية سورية، وبين الجيش التركي، الذي يرى ان اقامة كيان لكرد سوريا على حدود تركيا يهدد امنها القومي، وكان هذا احد اهم اسباب الخلاف التركي الاميركي طيلة السنين الماضية، او منذ اندلاع ما عرف بالازمة السورية، والذي بدا مع محاولة عزل مدينة كوباني (عين العرب)، ذات الغالبية الكردية وجعلها منطلقا، لاقامة كيان كردي شبه مستقل عن الدولة السورية او شماليها، والذي لاقى رفضا تركيا، انتهى الى تدخل عسكري واسع في الشمال السوري.
في رأينا ان على الفصائل الكردية ان تعرف حقيقة مهمة، هي ان اقامة كيان كردي من عدمه في أي بلد من البلدان الاربعة التي يتواجد فيها كرد، هو في الحقيقة قرار دولي، يتفق عليه الكبار، وان الاشتغال على نتائج قرار كهذا او العمل على تثبيته على الارض، امر ممكن، بصفته تحصيل حاصل.
لعل الفصائل الكردية المختلفة في سوريا، وصلتها هذه الرسالة، وظلت طيلة السنين الماضية تعمل عليها املا في تحقيق الحلم، بينما كانت هناك ممانعة قوية جدا، ليس من قبل تركيا وحدها بل من قبل دول اخرى اقليمية وكبرى ايضا، مثل روسيا التي تعرف مدى خطورة هذا المتغير الجيوسياسي في هذه المنطقة الحساسة من العالم. ومن هنا فان موقف تركيا وايران وسوريا، من مشروع اقامة كيان كردي كان واضحا، وان المعركة التي تعددت وسائلها منذ العام 2011 الى اليوم، تم حسم نتائجها بتوافقات الكبار، وبعد ان ايقنت اميركا من استحالة فرض كيان كردي على الحدود التركية، على غرار ما حصل مع العراق في تسعينيات القرن الماضي، وان التدخل العسكري التركي، يأتي على خلفية هذه الاتفاقيات السرية التي لا تعلم بها تلك الفصائل المدفوعة بحماسة قومية وطموحات شخصية، وما زالت تعتقد ان بامكانها ان تقهر الجيش التركي، وتفرض مشروعها على الارض.
الاميركان الذين كانوا يدفعون الكرد السوريين لحمل السلاح في البداية، صاروا يتحدثون اليوم عن حق تركيا في حماية امنها القومي، وكإنهم لم يعرفوا بهذا من قبل! والروس ايضا تحدثوا عن حق تركيا وسحبوا قواتهم من منطقة الصراع، ولم يبق امام الفصائل الكردية غير الاستنجاد بالجيش السوري ليقف معهم ضد الهجوم التركي! ما يفسر عمق المأزق الذي لا تعيشه تلك الفصائل وحدها، بل الكثيرين ممن لم يقرؤوا خارطة القوى جيدا، او انهم وثقوا كثيرا باميركا التي بذلت جهدها لكنها لم تستطع ان تغير خارطة المنطقة كما خططت، لان عالم اليوم ليس كعالم قبل سبعين او ثمانين عاما.. أي ان تلك الفصائل صارت ضحية مشروع فاشل وعليها او على قادتها الان ان يقرؤوا الحقائق على الارض، وان استمرارهم في رفع السلاح لم يعد مجديا، لان اللعبة انتهت.
اضف تعليق