لقد تطور مفهوم السيادة للدولة ونظام الحكم خلال التاريخ؛ وذلك عبر اكتساب الإنسانية مزيداً من الخبرة من تجارب الصراعات السياسية المريرة داخل الدولة على السلطة، وبين الدول على السيادة، وانعكس ذلك التطور بشكل تراكمي عبر تجارب سياسية ناجحة وأخرى فاشلة على شكل الدولة؛ وطبيعة نظام حكمها؛ وصولاً لطبيعة العلاقات الدولية بين الدول، وكان القرنيين الأخيرين من عمر البشرية باكورة ذاك التطور لمفاهيم نظم الحكم والسيادة للدول؛ ونظم العلاقات الدولية.
ولاشك أن ذاك التطور هو نتاج تجربة إنسانية شارك فيها جميع البشر بالصواب أحياناً وبالخطأ أحياناً أكثر؛ حتى وإن كان الفضل ينسب في ذلك لدول أو مفكرين بعينهم، إلا أن ذلك التطور هو حصيلة تجربة إنسانية جماعية وتراكمية، نجح البعض في استيعابها وتلافي أخطائها والاقتداء بنجاحاتها؛ و بدأ أولئك من حيث انتهى الآخرون الأكثر نجاحاً، وأولئك هم من تقدموا بدولهم فيما أخفق الآخرون في تلك المهمة وبقوا حيث هم، وتقدم قطار التطور بمن نجح في العبور.
وفي المقابل لم تحرز الإنسانية نجاح ملحوظ في إيجاد نظام دولي رشيد يحكم العلاقات الدولية، ويستفيد من التجارب التاريخية، ويكون بمقدوره إنشاء نموذج إنساني أخلاقي للسياسة الدولية يوازن بين المصالح والأخلاق، ورغم أن تجربة عصبة الأمم وكذلك الأمم المتحدة لاحقاً؛ شكلت محاولة في هذا الصدد؛ إلا أن كلا التجربتين لم تفلح في وضع معادلة بين المصالح والأخلاق، وظلت العلاقة متباينة بين كلاهما، ولا زالت السياسة الدولية محكومة بتلك المتباينة، وتفتقد في كثير من جوانبها للأخلاق، لكن هذا لا ينفي أن الإنسانية قطعت شوط هام في هذا المضمار نحو إنشاء منظومة علاقات دولية أقل توحشاً مما سبق.
وفي المقابل فإن العديد من الدول؛ وخاصة تلك التي أدركت باكراً التجربة الإنسانية، استطاعت أن تصوغ أنظمة حكم رشيدة وديمقراطية وأخلاقية، واستطاعت من خلالها طرح مفهوم إنساني وأخلاقي للدولة لا علاقة له بشكل الدولة التاريخي التقليدي الذي ساد لمئات القرون سوى في مكوناتها الرئيسية الثلاث، فلقد تطورت الدولة الحديثة خلال القرن الماضي، ونجحت عندما تحولت لدولة أخلاقية وليس إلى دولة ديمقراطية فقط؛ فألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية هي نتاج ديمقراطي لدولة ذات نظام ديمقراطي في حينه، لكنه لم يكن أخلاقي، فلم تلبث حتى تحولت إلى نظام فاشي شوفيني ثم إلى دكتاتوري مدمر.
ومفهوم الدولة الأخلاقية هو انعكاس لنظامها السياسي، فالنظام السياسي الأخلاقي هو مفهوم أوسع من ذاك الديمقراطي، فليس كل ديمقراطي أخلاقي ولكن كل نظام أخلاقي حتما هو نظام ديمقراطي بمحددات إنسانية عميقة، ولا تقاطعات فيه بين الوطني والقومي والعقائدي، فهناك مساحة كافية فيه لكل تلك الدوائر داخل دائرة أكبر هي دائرة الانسان، والمواطن في نظر هذا النظام هو أولا وأخيرا إنسان له حقوق محمية بسيادة الدولة، أما سيادة الدولة فهي سيادة الشعب التي ينظمها القانون عبر نصوص مقدسة وطنيا بين دفتي كتاب اسمه الدستور، فالسيادة في الدولة الديمقراطية الانسانية كالشمس تماما تستمد قوتها من الداخل، لكن إشعاعها للخارج فقط. فلا سيادة لأحد على أحد داخل تلك الدولة، فهناك سيد واحد فقط هو المواطن الإنسان.
هذا النظام هو فقط صمام الأمان لأى دولة صغر حجمها أم كَبُر، لكى لا تتحول إلى دولة فاشية دكتاتورية، ولكى لا تتخلف عن ركب الحضارة الإنسانية؛ ولكى تزدهر وتتقدم وتنتصر، وللتاريخ رواية في هذا الصدد، فهو لا يستنسخ لكن ثمة تناظر طبيعي في أحداثه طبقاً لقوانينه الثابتة، والتي تؤكد أن الأنظمة والدول الأخلاقية قصيرة العمر، ومحكوم عليها بالفناء فكما انتهت النازية والفاشية انتهت الدولة الأبرتهايد في جنوب أفريقيا، وستنتهى الدولة الصهيونية في فلسطين، ليس لأنها ليست دولا ديمقراطية، فكل تلك التجارب كانت ديمقراطية لكنها لم تكن دولا أخلاقية ولا إنسانية قطعا، وإسرائيل هي أحدث تلك النسخ لنموذج الدولة اللأخلاقي العنصري، ولكن التعجيل بسقوط تلك الأنظمة والدول الحتمي؛ يبدأ عندما يتبنى الطرف الآخر المنخرط في صراع مع تلك النماذج من الدول لنظام حكم أخلاقي يطرح النموذج البديل للدولة العنصرية والفاشية قومية كانت أم عقائدية.
إننا كشعب فلسطيني أحوج ما نكون اليوم لهذا النظام، ليكون بمقدورنا الصمود والانتصار في صراعنا مع الدولة الصهيونية، وهي بالتأكيد لن تكون مهمة سهلة لكنها ليست مهمة مستحيلة، وذلك لأن القضية الفلسطينية تضرب في أبعادها الإنسانية إلى عمق الضمير الإنساني، وتتعدى حدود الوطني والقومي والعقائدي، فهي أعدل قضايا الإنسانية، وهى الاختبار الأعمق أخلاقياً لمنظومة العلاقات الدولية على مر التاريخ، وطبيعة حلها سيكون نقطة فارقة وتاريخية في مستقبل تطور تلك المنظومة الدولية نحو عالم أكثر أخلاقية وأقل توحشاً.
اضف تعليق