لقد بدا العنف منظورا اليه على أنه يشكل العلاقة المكملة والناتجة عن المقدس، وقد بدت تلك النظرة أكثر ابتذالا بعد ان راجت بين القراءات السطحية للمقدس والرؤية الاختزالية للأشياء التي أسهمت في ترويجها الميديا بعد دخولها حقل المنافسة غير المتكافئة مع المؤسسة المعرفية في تاريخ الفكر البشري، والتي أنتجت الوعي من خلال الأكاديميين المختصين والباحثين المتفرغين لموضوعات المعرفة التي ظل المقدس فيها حقلا مهما واستثنائيا.
لكن في قبالة هذا التفرغ المعرفي والتخصص الأكاديمي كان الاختزال المعرفي السمة البارزة في حركة الميديا الجديدة، فالتأني العلمي مسحوقا في عجلة الماكنة الاعلامية، وهنا تكون الاختزالية الممنهجة في المعرفة المبتسرة والشائعة، وفي ظلها تكونت التفسيرات التي تعود بالعنف الى المقدس وما تبثه من رعب اجتماعي تجاه المقدس، وقد أسهمت الرسوم المسيئة للنبي في صحافة الغرب وبصيغتها الاعلامية بدرجة أولى وليس الفنية بتكريس الرعب تجاه الاسلام، لاسيما وأن ذاكرة الغرب تختزن بآلام الرعب الكنسي المسيحي والذي دائما يستعيد الغرب تلك الذاكرة في تفسيره ونظرته الى الدين والمقدس، وهي التي تؤسس تاريخيا لعلاقة العنف بالمقدس في تلك الذاكرة التي صارت حساسة جدا تجاه الدين والمقدس، وتقف ضمنيا خلف حديث الغرب الدائم عن الديمقراطية والعلمنة وضرورة فصل الدين عن الدولة والسياسة.
وبإزاء تنوع صور العنف تاريخيا واجتماعيا وارتهانه بالتاريخ البشري واسبابه الرئيسية في التنافس على المصالح التي ترتبط بالسلطة والتي ظلت تحرك الحروب باستمرار، فقد تم اختزال العنف في علاقته بالمقدس والدين كأعلى وأهم تعبيرات المقدس، لكن كارين ارمسترونغ في كتابها "حقول الدين والتاريخ والعنف" عادت بالعنف الى مساراته التاريخية القديمة وتجاوزت تكلّفاته التفسيرية الحديثة.
لقد عدّت العنف أشد اقترانا بالاقتصاد الزراعي في تلك الحقبة الزمنية القديمة التي نشأت فيها الحضارات القديمة، إذ أسهمت تراكمات فائض الانتاج في توليد الهرمية الاجتماعية والسلطة والعنف – أسطورة العنف المقدس، ايمان القويفلي –.
فالسلطة بذاتها تلجأ الى العنف رغم اختلاف أنواع ايديولوجيات السلطة أو اختلاف أنواع السلطة، بل السلطة تقوم على العنف واحتكار القوة التي تتعدد صورها ومعانيها من القوة المادية الى المعنوية، والقمع هو أحد أهم أدوات السلطة بذاتها، باعتبار القمع أهم تعبيرات القوة، والقمع يكون احيانا قمعا ماديا تمارسه السلطة السياسية واحيانا قمعا معنويا تمارسه السلطة الثقافية، وهنا تتجاوز السلطة حقلها أو موضوعها السياسي الى حقل المعرفة –السلطة ويتعقد فيها نظام الحكم– الايديولوجيا، وفي ذلك النوع من القمع تكون العقائد والمفاهيم والايديولوجيا أخطر في عمليات الاقصاء والطرد من السياسي في الدولة ونظام الحكم فيها، وتحيل السلطة الثقافية في المواجهة مع أنواع السلطات الاخرى الى العنف –القمع الذي يتأسس بالمعرفة– السلطة، فالأنظمة الشمولية والدكتاتورية الشيوعية والقومية لجأت الى اقصاء وطرد الآخر بإحالات ثقافية تضمنتها ايديولوجياتها وخطوط المعرفة النضالية لديها، وبواسطة تلك الإحالات الى الثقافي تم التغطية على صراع المصالح والحقوق الضائعة في زحمة التأسيسات للامساك بالسلطة الشمولية.
ويستمر التفسير الثقافي لدى أنظمة الغرب والتغطية على وجهة الصراع بين الغرب والشرق الاسلامي بإحالة هذا الصراع الى التمنع الذي يبديه الشرق الاسلامي في دخول الحداثة وعدم قبوله مبادئ الديمقراطية والعلمنة، وهو يمارس بهذا قمعا سلطويا – معرفيا في اختزاله لمشكلة الصراع في هذا الجانب الطوباوي في التفسير، وهو ما يبرر لجوء أميركا الى اقحام مبادئ حقوق الانسان والقيم الاميركية في الديمقراطية والسوق الحرة في مشروعها الشرق أوسطي الكبير، والذي استهدفت فيه ممارسة سلطتها الفائقة والمنفردة في قيادة العالم وبواسطة العنف - الحرب نحو مثلها العليا، والذي أنتج العنف المضاد على أثره في المنطقة ليشمل أغلب بقاع العالم، لاسيما وان هذا العنف المضاد كان ينطلق من بقايا السلطة التاريخية في الدولة الاسلامية ومن بقاياها في الذاكرة الاسلامية – السنية، لذلك كانت تؤدى مراسيم البيعة لقادة تنظيمات العنف في المواجهة، ولم يكن اختيار اسم الدولة الاسلامية لتنظيم داعش الا تعبيرا عن هذا الانهمام الديني السياسي لفئات من المجتمع الاسلامي بالسلطة.
هكذا نجد ان تضخمات السلطة وتورم الجسد السلطوي الاقتصادي والسياسي والثقافي وليس العلاقة بالمقدس بالضرورة هو الذي يحيل الى انفجارات الوضع في العنف، والتورم بطبيعته التقنية يقود الى الانفجار، ولعل تراكم فائض الانتاج لدى ارمسترونغ هو نوع من هذا التورم في هذا الفائض الذي يعزز السلطة ويخرج عن حدود السيطرة والذي يحيل الى العنف، وفي هذه الحالة يكون العنف مركبا ذاتيا في طبيعة السلطة بينما تكون العقلانية والقانونية مركبا الدولة، وبالقدر الذي لا تخرج فيه الدولة عن العقلانية والقانونية سواء في تفسير وجودها أو في تفسير واقعها وعملها، فان السلطة تستبطن امكانية الخروج عن العقلانية والقانونية لاسيما في ممارسات العنف التي تلجأ اليها من أجل بقائها واستمرارها، ولذلك ارتفعت أصوات كبار قادة الثقافة في العالم المعاصر الى ضرورة المواجهة بين المثقف والسلطة.
فالسلطة تتمرس ذاتيا في بنية القمع وليس المقدس الا في حالة تمترسه بالسلطة، والمثقف هو كابح القمع الذاتي للسلطة، وبنية القمع تتشكل ضرورة في السلطة، فالسلطة حركة طارئة في تاريخ البشر نشأت في أعقاب خروج الإنسان من عصر المشاعية الى عصر الحيوزات الفردية والجماعية، ولغرض الدفاع عن هذه الحيوزات احتاج الانسان الى العنف، وهنا تبرز تاريخيا السلطة الموجهة للعنف.
وبسبب التحديات التاريخية والاجتماعية التي مر بها تاريخ البشر والخضوع الى السلطة بواسطة العنف الموجه، ابتكر الفكر السياسي مقولة العقد الاجتماعي في تبرير قيام السلطة وضمنيا كان يسعى الى تبرير العنف الذي يدخل في تركيبة السلطة، ثم جاءت تطورات النظم السياسية لتعيد بناء مفهوم السلطة وفق مقتضيات المصلحة والبراغماتية التي جاءت مرة أخرى لتبرر العنف في تركيب السلطة، وقد عبرت عنه سياسات الولايات المتحدة الاميركية في الدفاع عن مصالحها بواسطة القوة والحرب.
اضف تعليق