{...و قل ربي زدني علماً}، منذ اكتشاف الانسان الطريق نحو تطوير حياته ومواجهة المخاطر المحدقة به من خلال نور العلم، لم يتوقف لحظة واحدة عن البحث والتجربة والابداع للمزيد من المكاسب العلمية التي قامت على اساسها الحضارات، وشيدت دول عظمى، وإلا لو كان الانسان الذي اكتشف العجلة – وحصل ذلك في العراق كما يقال- اكتفى بان تكون مجرد وسيلة للنقل، لما تطورت سائر وسائل النقل الاخرى التي ابتكرها الانسان الحديث، وهكذا سائر المكتشفات العلمية، لاسيما ما يتعلق بالعمران والزراعة والصناعة.
وهكذا تطورت حياة الانسان في البلاد المتقدمة علمياً، فهم لم يقيدوا العلم بأطر جمالية او عناوين تبعث على الزهو في النفس، إنما فتحوا آفاق العلم امام العلماء ومن هو في طريق التعلّم.
ولعل من اهم اسباب هذا النمط الضيق من التفكير؛ ربط العلم بالمال والكسب المادي، فالهدف من كسب العلم والتعلم، من المرحلة الابتدائية وحتى آخر مرحلة في الجامعة، بل حتى مع الدراسات العليا، هو الحصول على فرصة عمل ذات مردود مالي جيد، هذا فضلاً عن أن البعض حوّل التدريس نفسه، الى مهنة تدر عليه الملايين.
هذه النتيجة لم يكن ليتوصل اليها اصحابها، لولا الشعور المتنامي في نفوسهم بالكفاية مما اكتسبوه من العلم، لاسيما اذا بلغت المرتبة العلمية الى مرحلة الدكتوراه او حتى "البروفسورية" علماً أن صفة البروفسور، تعني بالفرنسية؛ "استاذ جامعي" –وهذا للعلم فقط- فهذه الشهادة العلمية تعني لدى البعض نهاية الطريق في مجاله التخصصي، بينما لا يجهل المعنيون السعة اللامتناهية للعلم في شتى الميادين، سواءً العلوم الطبيعية او العلوم الانسانية.
وقد روى المرجع الديني السيد صادق الشيرازي – حفظه الله- ذات مرة، عن احد طلبة الدرسات العليا من بلد اسلامي، في احدى البلاد الغربية، واراد التوسع اكثر في مجال الاقتصاد الذي يدرسه، ولم يكتف بالشهادة الجامعية العليا التي منحوه هناك، فلفت ذلك المسؤولين عن تلك الجامعة الغربية، فسألوه عن غاياته من وراء إراره على مواصلة الدراسة في الاقتصاد، فنهوه عن ذلك بشدة، قائلين له: ما تدرسه هنا، كافياً لك...".
وهذا يدعونا لأن نحدد أمور أساسية أهمها:
1- قيمة العلم، وقد بين علماء الدين أن قيمة العلم من الحكمة الإلهية، فالعلم "حكمة بالغة من حكم الخلق، ذلك أن الغاية من خلق الله البشر العبادة، وأفضل العبادة تلك التي تكون عن معرفة"، وقد أحكم القرآن الكريم العلاقة بين الحكمة من خلق السموات والارض والكائنات الحيّة، وبين قدرة الانسان على معرفة الحكمة من هذا الخلق، لذا نقرأ غير مرة في الكتاب المجيد إشارة الى "التفكّر"، واشارة أخرى الى {أولي الألباب}.
ولهذه القيمة تجليات في حياة الانسان، وانعكاسات ايجابية هامة على المجتمع والامة، يقول المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في "التشريع الاسلامي، مناهجه ومقاصده"، الجزء السادس: ان من تجليات قيمة العلم الإلهي، ان يكون العالم مطاع بإذن الله"، مستنداً على الآية الكريمة التي تبين خطاب النبي ابراهيم الى أبيه (عمه) آزر: {يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني اهدك صراطاً سويا}.
والتجلّي الآخر يذكره المرجع المدرسي، يظهر في مسألة الحكم والقيادة، ويؤكد ان "الملك من حق العلماء بالله، فهذا طالوت اصطفاه الله تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم، مما يهدينا الى أن العلم والقوة من ملاكات الاصطفاء".
2- مصادر العلم، وهو مما يرتكز عليه العلم ويتحدد مساره وغاياته النهائية، ولذا أكد علماء الدين على الدعامتين الأساس ليستقي العلم قوته ومصداقيته وهما؛ العقل والوحي، فالاول؛ يعني بالجهد الانساني، والآخر؛ يعني بما يحدده الله –تعالى- من خلال سننه وحكمته قوانينه في الحياة.
وقد أسهب الفلاسفة والمفكرون في سبر غور القدرات الانسانية في إعمال العقل لكشف الحقائق والاجابة عن عديدة الاسئلة المحيطة بالانسان، من علة الخلق وكيفية نشوء الكائنات الحية، وطريقة تعامل الانسان في الحياة، هل يكون تعاملاً مادياً بحتاً؟ أم تعاملاً معنوياً ومثالياً بحتاً؟ أو توازن بين الاثنين؟ ومضت قرون عدة من تاريخ المعرفة، ولم يجزم الفلاسفة رأيهم في الدوافع الحقيقية لوجود الانسان في الحياة، حتى ذهب البعض الى "العبثية" فيما ذهب آخرون الى "اللاأدرية" والتشكيك بكل شيء.
إن مسلسل التضارب والتخطئة في الافكار والمدارس الفلسفية منذ ايامها الاولى،يعود الى قصور العقل الانساني في الاحاطة بكل شيء في الحياة، فهو يتمكن من التفكّر والتدبر والتحليل والاستنتاج ليفهم ما يدور حوله، بيد ان يجهل ما ستؤول اليه الاحداث، وما يمكن ان تسبب هذه الفكرة او ذاك العمل من عواقب، وهنا تقف مدرسة الوحي لتقدم منظومة علمية وتربوية متكاملة من خلال الرسل والانبياء الذين يحملون علوماً غير متوفرة لسائر البشر، لذا نجد في القرآن الكريم التذكير بما جرى على الاقوام السابقة من دمار وانحطاط بسبب معارضتهم قيم السماء، وإلا من كان ينقل لبني اسرائيل في عهد موسى، عليه السلام، تجارب الاقوام السابقة مع انبيائهم، وكيف كان الكفر، واتباع هوى النفس، والتمسك بخرافات واساطير الآباء والاجداد، تسبب في اندثار حضاراتهم وما بنوه وشيدوه واتعبوا انفسهم قروناً من الزمن؟
إذن؛ كلما اتسعت آفاق العلم وتعمّقت الغايات وتأصل المصدر، كلما تمكن الانسان من صياغة البدائل الافضل لحياته وحياة مجتمعه وأمته، أما التوقف عن محطات معينة على أنها النهاية ولا شيء بعده، فهو الذي يجعلنا نشكو دائماً من القصور في هذا العلم وعجزه عن حل مشاكلنا، ويدفعنا الى اليأس من أن يكون عامل تقدم وتطور في حياتنا.
لننظر الى القرآن الكريم ونرى كيف أن الله يوجه نبيه الكريم، وهو خاتم الانبياء وصفوته من خلقه وخازن علمه، بأن لا يعجل بالعلم، ويتوخّى الروية في تبليغ أحكام الله الى الناس؛ {...ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى اليك وحيه وقل ربي زدني علماً}، (سورة طه، 114)، يقول العلامة الطباطبائي في تفسيره (الميزان): "المراد هو الاستبدال،أي بدّل الاستعجال في قراءة ما لم ينزل بعد، طلبك زيادة العلم ويؤول المعنى الى أنك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد لأن عندك علماً به في الجملة، لكن لا تكتف به واطلب علماً جديداً بالصبر واستماع بقية الوحي".
اضف تعليق