أول كلمة تطلقها الدولة ومؤسساتها الامنية والحكومية في حملتها لجمع السلاح من الاشخاص والجماعات في المجتمع؛ "الحفاظ على الأمن"، كما لو انها تتذكر فجأة دورها في توفير الامن والاستقرار من خلال حصر السلاح بيدها.
بيد أن تميز الوضع العراقي في أجوائه الاجتماعية والسياسية، جعل من السلاح، قوةً لها دور حيوي في التأثير على مجريات الاحداث، فالعراق –بالاساس- يعاني عقدة الدولة، فقد كان طيلة قرون من الزمن بين كماشتي الدولة الايرانية القاجارية، والدولة التركية العثمانية، وكانت مهمة الولاة والحكام المعينين في العراق، حفظ المصالح العليا للدولة العثمانية المستعمرة للعراق آنذاك، مما أعطى للسلاح قيمة عالية بين العراقيين، فهو يرمز للقوة والمنعة، كما يمثل أداة فاعلة للدفاع عن النفس والحقوق، في ظل غياب نظام حكم يصون مصالح وكرامة الشعب العراقي.
وربما يكون هذا أحد الاسباب المؤدية لتفاعل العشائر العراقية في الجنوب والوسط مع فتوى المرجعية الدينية بالانتفاض ضد الاستعمار البريطاني، فقد تحول السلاح البسيط الى وسيلة قنبلة مدوية انفجرت بوجه البريطانيين، واجبرتهم على الانصياع لمطالب العراقيين بتشكيل حكومة مؤلفة من عراقيين او عرب مسلمين، وليس من ضباط الجيش البريطاني كما كانت لندن تفكر بذلك.
وبعد ثورة العشرين وتشكيل الدولة العراقية، وتحديداً؛ الجيش العراقي في العام نفسه(1920)، تمسكت العشائر بسلاحها ولم تسلمه لـ"الدولة"، لان الحكومة الملكية في العراق والقائمة على أسرة هاشمية قادمة من الحجاز، حملت معها عوامل الفشل منذ تلك الايام، لانها لم تتمكن من التعبير عن حاجات وتطلعات الشعب العراقي، وبالرغم من وجود دولة وحكومة وملك في العراق، بيد أن الانسان الذي يتعرض لاعتداء فانه لا يتوجه الى المحكمة، وإنما الى ديوان العشيرة، فهي التي تحكم ثم تفصل بين الجانبين بفدية مالية تختلف حسب حجم الجرائم والاعتداءات.
الخشية من التأثير على القرار السياسي
ان التجربة الناجحة في توظيف السلاح في ثورة العشرين للمطالبة بالحقوق والكرامة، تحول الى كابوس مخيف لدى الانظمة السياسية المتعاقبة في العراق، لاسيما وأنها تمخضت من المعسكرات، ولم تلد من رحم المجتمع، فكان أبطالها الضباط المتخرجين من الكليات العسكرية البريطانية، وهذا مدعاة للتأمل! ولذا جرت المحاولات لتجريد العشائر من سلاحها بغية التخلّص من أخطر شوكة يمكن ان يستفيد منها المعارضون، وتحديداً التيار الاسلامي الذي كان يمثل التهديد الاكبر لهؤلاء، كون العشائر وعموم شرائح المجتمع تحتفظ بعلاقة وطيدة مع العلماء ومراجع الدين الذين حملوا مشروع التغيير الشامل في المجتمع والدولة.
وكان نظام حزب البعث في العراق من أكبر الخائفين من هذه الشوكة الفتاكة، فقد عملوا بإتقان مذهل على تدجين الناس على خطين متوازيين؛ في الفكر، وفي السلوك؛ فكما نجح في تكريس حالة الضعة أمام الحاكم، فانه نجح ايضاً في تكريس حالة العجز عن فعل أي شيء ضد النظام الحاكم، مهما كانت درجة الاضطهاد والاستعباد، ولكن؛ غاب عن ذهنه روح المقاومة والتحدي المتأصلة في النفسية العراقية، وأنها تنتفض فجأة حالما وصلها المدد من القوة والعزيمة، فكانت الانتفاضة الشعبانية التي تفجرت بشكل متوقع وبذلك التفاعل والتوسع السريع في مدن الوسط والجنوب، بفضل حصول العشائر وعامة الناس على السلاح الذي تخلّى عنه الجنود الهاربين من جحيم الحرب المدمرة التي شنتها اميركا وحليفاتها لتحرير الكويت، وأثبتت لصدام وللعالم بأن العراقيين ليسوا بذلك الشعب الذي تصوروه في اذهانهم، انما بامكانه التأثير السريع والقوي على القرار السياسي حالما تسلّح بعوامل القوة والمنعة.
فمن استهداف الاستعمار البريطاني، الى استهداف النظام الديكتاتوري، جاء دور الاحتلال الاميركي للعراق الذي أطاح بهذا النظام ودعا الى تأسيس نظام ديمقراطي على أنقاض الديكتاتورية الصدامية، في هذه المرحلة، لم تعد العشائر الوحيدة في الساحة في مسألة امتلاك السلاح، إنما تحول الامر الى توظيف سياسي في ظروف استثنائية لم يشهدها العراق من قبل، حيث الحرية المطلقة الشبيهة بالفوضى العارمة، مما أبعد قوة السلاح هذه عن الاهداف النبيلة التي كان يبحث عن الشعب العراقي فيما مضى من الزمن وهو يحمل بندقيته وسلاحه بوجه الظلم والطغيان، فمن كان يتحدث عن "المقاومة للمحتل" ويقود المجاميع المسلحة ويدّعي قتال الاميركان، تحول فيما بعد الى وزير او مدير او ضابط كبير يركب السيارة الفارهة ويمتلك العقارات والامتيازات.
التطلّع نحو المجتمع المدني والطريق الى ذلك
من هذه المعطيات يتضح أن وجود السلاح بين شرائح في المجتمع إنما هو حالة فرضتها الظروف الاجتماعية والسياسية، وإلا فالمعروف عن الشعب العراقي بين شعوب المنطقة، تماسكه الاجتماعي واحتكامه الى القيم الانسانية والاخلاقية، فلم يشهد في تاريخه حروب أهلية ولا نزاعات مسلحة بدوافع عرقية او قومية او طائفية، فلم يكن السلاح يوماً وسيلة للتعامل البيني في المجتمع او بين العشائر، إلا بعض الاستثناءات ممن يشكون من حالات توتر عصبي، او حالات نفسية متدهورة.
فاذا كانت الدولة العراقية في الوقت الحاضر جادّة في أمر حصر السلاح بيدها، وإنهاء عمل الفصائل العسكرية المشاركة في عمليات التحرير والحرب ضد عناصر داعش، عليها الخروج من دائرة التنظير وإصدار الأوامر، الى حيث الواقع الاجتماعي الذي تستند اليه الفصائل المسلحة المستهدفة بالقرار الحكومي، لان معظم سلاح هذه الفصائل إنما هو موجود في البيوت والمزارع وليس فقط في المعسكرات الخاصة بها، لذا فان الحكومة مدعوة للعمل على اتجاهين في آن واحد بغية الوصول الى الهدف النهائي وهو صياغة مجتمع مدني بروح المقاومة والمنعة والتحدي:
الاول: يتعلق بحَمَلة السلاح المنضوين تحت لواء الحشد الشعبي وجميع الفصائل المسلحة الموجودة، بتكريم هؤلاء جميعاً من خلال دمجهم في القوات المسلحة، والاستفادة من تجاربهم وخبراتهم التي اكتسبوها في حربهم ضد الارهاب طيلة السنوات الماضية.
الثاني: ويتعلق بالحكومة نفسها، وأن تعمل على صياغة قوانين وتشريعات تضمن السلم الأهلي، وتعطي المصداقية للقوانين الخاصة بالجرائم والمخالفات، وبكلمة؛ تلغي أي مبرر لوجود قوة السلاح في العلاقات الاجتماعية، سواءً كان هذا الوجود لدى شخص بعينه، أو كان بيد عشيرة كبيرة، وهذا لا يكون بين ليلة وضحاها، إنما يحتاج الى وقت طويل، ولكن؛ يعوّل عليه، اذا كان بمنهجية متكاملة تعطي الاولوية لحكم القانون الى جانب القيم الدينية والاخلاقية.
وقبل الختام؛ لابد من التذكير بدور منظمات المجتمع المدني في هذا المضمار، فهي المعنية بالدرجة الاولى في نجاح هذا المشروع الحضاري في بلد مثل العراق، من خلال برامج تخرج من إطار التنظير داخل المكاتب المنتشرة بأسماء مختلفة، فهنالك بلاد عاشت الحروب وحمل ابناؤها السلاح للدفاع عنها بوجه المحتل، والآن تعيش حياة مدنية خالصة، بيد أن اطفالها يحفظون أسماء ووجوه أولئك الابطال المضحين، و ويلامسون السلاح المعروض امامهم في مناسبات عدّة، على أنه رمز للفخر والاعتزاز، وثمة استعداد كامل في أي وقت لتكرار البطولات والملامح اذا ما اقتضت الضرورة الى ذلك.
اضف تعليق