تشكل الانطباعات النفسية تجاه الشعوب جزءا من المخيال الاجتماعي السائد في بناء التصورات حول الأخر، وتظل تلك الانطباعات مخلفات الفكر في النفس، لكنها تشكل أسس السلوك الشخصي والاجتماعي تجاه الآخر، أو انعكاس تلك الافكار في بناء السلوك الذي يدخل في أطار التعامل مع الآخر، بل تؤدي تلك الانطباعات الى التحكم أخيرا في مسائل التقييم والتوقعات، وهنا تغيب الموضوعية أحيانا بشكل كبير.

ولعل التجارب التي خاضتها الشعوب في ظروف تاريخية معينة تتسم بالصعوبة وفي اشكال من العلاقات غير المتوازنة هي التي تؤثر كثيرا في صياغة المخيال الاجتماعي لديها تجاه بعضها، وصناعة الانطباعات المترتبة عليها التقييمات والتوقعات بإزاء سلوك الآخر، ولذلك لم يكن مفاجئا ان تتوقع الجهات المعنية بترقب الاوضاع في فلسطين من محللين ومراقبين سياسيين باندلاع اعمال العنف وردود الفعل بإزاء قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

وهي أعمال اعتادت عليها الجماهير الفلسطينية والعربية في السلوك السياسي تجاه التجاوزات المستمرة للكيان الاسرائيلي على حقوق الشعب والارض في فلسطين وبمؤازرة الولايات المتحدة الاميركية، ولقد صرحت مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوربي بأن قرار ترامب سيؤدي الى أوقات أكثر سوادا، وهو جزء من تلك التوقعات التي تنتجها تلك الانطباعات عن السلوك الجمعي العربي تجاه قضايا العرب والاسلام، وكان بيان رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي يحذر ضمنيا من أجواء العنف التي يمكن أن يحدثها قرار ترامب، فقد ذكّرت ماي الإدارة الاميركية "ان أجواء خالية من العنف" لابد منها لإعطاء فرصا أكثر لإنجاح عملية السلام كما دعت الى "العمل سوية للحفاظ على الهدوء".

وهي تقييمات موضوعية تتمخض عن تجربة ودراية بالقضية الفلسطينية، وتؤكد الانطباعات المعتدلة في السياسات الاوربية، وبالقدر الذي تؤكد تلك الانطباعات الحذر والخوف الذي من الممكن ان يغزو الغرب والشرق تجاه قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، الا انها تبدو انطباعات باهتة وغير ذات أهمية بالنسبة لترامب، بل يبدو انه تشكلت انطباعات راسخة ومغايرة لدى ترامب بان العرب أمة لا تنتج ردة فعل مؤثرة، وأن اقصى ما تصنعه هو احتجاجات كلامية ولفظية تلقي ما في جوفها من غيظ، ويتنفس مكبوت الغضب لديها في المظاهرات واحراق العلم الاميركي والاسرائيلي. فقد تولدت لدى الإدارة الاميركية قناعة سياسية وانطباعات شخصية في طريقها الى تكوين مخيال أميركي خاص حول العرب خلاصته بان العرب سيرضخون في نهاية المطاف.

لقد كان هذا الطموح الأمريكي حول تجاوز التوقعات بإزاء السلوك الغاضب للعرب يداعب خيالات الرؤساء الاميركيين السابقين، فقد تحدث رونالد ريغان عن القدس عاصمة لإسرائيل، وتحدث بيل كلنتون عن قطعة أرض لواشنطن في القدس يمكن بناء سفارة اميركية عليها، وكان بوش الابن يتطلع في مكتبه البيضاوي الى الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اسرائيل، لكنهم كانوا يصطدمون بالتوقعات التي يستنتجها هؤلاء الرؤساء في مخيالهم السياسي كأميركيين حول امكانية موجة العنف والغضب التي يمكن ان تجتاح المنطقة وتهدد المصالح الاميركية في العالم الاسلامي والعربي، وبهذا يكون ترامب قد غامر بأكثر التحولات الاميركية اثارة نحو استعادة تركيب المخيال الاميركي باتجاه تحديد وفاعلية الشخصية العربية وتقييم البعد الواقعي في هذه الشخصية، وهو ايضا اعاد تركيب التصور الاميركي حول ردود الفعل العربية المتوقعة لكن هذه المرة على أرض الواقع وليس في نطاق التصور النظري الذي ظلت الشخصية العربية حبيسة له في الذهن الاميركي.

لقد كان الاميركيون يدركون ذلك نظريا لكنهم لا يجرؤون حتى جاء ترامب ليحققه عمليا، ولعلها لحظة يندم عليها رؤساء اميركا السابقين الآن، وقد تركت سياسات ترامب وتغريداته المثيرة للجدل انطباعا عاما عن شخصيته الشعبوية والسوقية، وقد بدت مؤثرة في صنع سياسته وفق المراقبين والمحللين لاسيما العرب المقيمين في أميركا مؤكدين انطباعهم عنه وتوصيفهم له بالغباء والسذاجة وعقلية رجل الاعمال والتجارة، بل وجدوا فيه شخصا لا يفقه في شؤون السياسة وادارة الولايات المتحدة، ولعل هؤلاء المراقبين هم من لم يدركوا الواقع العربي على حقيقته، وانه بات واقعا راكدا غير قادر على انتاج، وان انطباعاتهم التي يستنتجون توقعاتهم من خلالها حول العنف والغضب الذي ستحدثه هكذا قرارات مغامرة وغير مسؤولة باتت خالية من كل واقعية ترشح انطباعاتهم لتوقعات حقيقية.

لقد أدرك ترامب وبكل استخفافه الواقعي بإرادة العرب السياسية خطأ انطباعات أسلافه الرؤساء الاميركيين بان النتائج قد تكون فادحة باتخاذ قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ورغم ذلك فان تراجع الموقف العربي الرسمي والشعبي الذي كان ممكنا في فترة الرؤساء الاميركيين هو الذي مهد أيضا الى ترامب قراره الجائر الاخير.

وتبدو انطباعات المحللين العرب أكثر تضليلا في مجال توقعاتهم في تقييم النتائج المترتبة على قرار ترامب، فهم يتحدثون عن مبررات للحركات الاسلامية المتطرفة وفّرها لهم قرار ترامب من أجل مزيد من التطرف، وان الإرهاب سيعود ممارسات مبررة في نظرهم باستباحة المحرمات الاسلامية والحرمات الانسانية، بل ذهب شيخ الازهر الى ابعد من ذلك بان هذا القرار سيفتح باب الجحيم على الغرب قبل الشرق، في الوقت الذي يقترن فيه الانطباع العام عن الارهاب بالجحيم المعاصر.

وقد غاب في حديث اولئك امكانية رد فعل عربي مؤثر وبنّاء، وقد نسيت كل تلك التصورات والانطباعات العربية الساذجة بان الحركات المتطرفة وايديولوجيا الارهاب هي التي مهدت الى كل هذا التراجع في الموقف العربي والاسلامي، وانها الجهات التنظيمية والسياسية الوحيدة التي استطاعت ان تشغل الرأي العام العربي والاسلامي عن قضية فلسطين ومركزيتها بالنسبة للعرب والاسلام، واحالت الصراع العربي الاسرائيلي كصراع خارجي يعبر عن ارادة أمة تخوض أعنف تحدياتها التاريخية الى صراع داخلي مزدوج باتجاه تشتيت قدراتها وطاقاتها، وتجد أصدق تعبير لها في حرب الكل العربي على الكل العربي، وتلك أخطر افرازات الارهاب وتكشف عن هشاشة الواقع العربي وسذاجة التوقعات العربية بإزاء ضياع القدس.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق