إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نيته نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس أو الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وسواء تم اتخاذ القرار بهذا الشأن أم تم تأجيله فالنتيجة واحدة وهي أن الإدارة الأمريكية بسلطتيها التنفيذية والتشريعية تعترفان بالقدس كعاصمة لإسرائيل. وأن يتصل ترامب بقادة دول عربية وإسلامية ليعلمهم بنيته قبل اتخاذ قراره هو محاولة منه لتحسس ردود الفعل المتوقعة على قراره، ونخشى أن ردود الفعل المقتصرة على التنديد والشجب والتحذير فقط ستشجع ترامب على المضي قُدما في قراره سواء اتخذه الآن أو بعد حين مطمئنا أن الحكومات العربية والإسلامية باتت تغلب مصالحها على أي اعتبارات دينية أو قومية أخرى وأنها ستكبح جماح أي تحركات عنيفة ضد واشنطن ومصالحها.

هذه الخطوة ليست مفاجئة وكانت متوقعة والرئيس ترامب كان واضحا منذ البداية عندما قال إن قرار نقل السفارة مسألة وقت فقط، والخلل عند مَن استمروا في المراهنة على واشنطن كشريك للسلام أو وسيط نزيه ووضعوا كل بيضهم في سلة الحل الأمريكي منذ مؤتمر مدريد حتى ما تسمى الصفقة الكبرى، دون البحث عن خيارات بديلة. بالرغم من خطورة هذه الخطوة الأمريكية إلا أن الفلسطينيين والعرب والمسلمين تأخروا في التحرك، وتحرك اللحظات الأخيرة لن يردع ترامب ويثنيه عما اعتزمه.

عندما نقول تأخروا لأن قرار نقل السفارة اتخذه الكونجرس الأمريكي منذ عام 1995 ولم نسمع أو نشاهد تحركات عربية وإسلامية للتأثير في المجتمع الأمريكي حتى يتم التراجع عن هذا القرار، كما أن ترامب أعلن عن نيته نقل السفارة أثناء حملته الانتخابية وكرره أكثر من مرة لاحقا وبدلا من اتخاذ مواقف وإجراءات ضد إدارته لثنيه عن عزمه بهذا الشأن عززت الأنظمة العربية علاقاتها مع إدارته ودخلت معها في تحالفات عسكرية وأمنية وعقدت معه صفقات بمئات مليارات الدولارات، بل نقول بأن ترامب أعلم أخيرا بعض العواصم العربية بنيته بالاعتراف بالقدس الموحدة كعاصمة لإسرائيل، وإلا ما الذي يفسر عرض ولي عهد العربية السعودية على الرئيس أبو مازن قبل أيام فقط أن تكون بلدة أبو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية وأن يتم الضغط على أبو مازن ماليا بل والتهديد بالبحث عن قيادة جديدة إن لم يتجاوب مع الرؤية الأمريكية للتسوية؟.

أما بالنسبة لتداعيات هذا القرار فإنه سيضع الفلسطينيين والعرب والعالم أمام الأمر الواقع وخصوصا في تعاملهم مع أي مشروع تسوية جديد سواء في إطار ما تسمى الصفقة الكبرى أو غيرها، وفي ظني أن ترامب ومعه أطراف عربية يسعون لتفكيك الملفات العالقة وهي القدس واللاجئين وجغرافيا الدولة الفلسطينية. ترامب يمهد الطريق بالنسبة للقدس، ودول عربية تمهد الطريق لحل مشكلة اللاجئين من خلال وقف تمويل الأونروا وتوطين اللاجئين في أماكن تواجدهم، والتلاعب بجغرافيا الدولة الفلسطينية الموعودة من خلال الحديث عن توسيع غزة باتجاه سيناء وتبادل أراضي، وكل ذلك يترافق مع ضغوط مالية كالقرار الذي اتخذه الكونجرس بوقف تمويل السلطة في نفس يوم إعلان ترامب نقل السفارة يقابله ويتناغم معه إغراءات مالية سعودية وإماراتية في حالة قبول الرئيس أبو مازن بالرؤية الأمريكية، مع تهديد مبطن بتغيير القيادة الفلسطينية إن لم تتجاوب مع كل ذلك.

قرار نقل السفارة أو الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل حتى وإن كان في إطار النوايا يعتبر انقلابا على اتفاقات التسوية وعلى قرارات الشرعية الدولية وانحيازا كاملا لإسرائيل كدولة يهودية في الجغرافيا التي تحددها إسرائيل وليس الأمم المتحدة، الأمر الذي يتطلب، حتى قبل أن يصدر القرار وبغض النظر عن صيغته، مواقف من كل الأطراف المؤيدة لعدالة القضية الفلسطينية تتجاوز مجرد التنديد والشجب، والرد الفلسطيني سيكون المُحَدِد والموجه لأي ردود فعل أو تحركات عربية ودولية، فإن لم تكن ردة الفعل الفلسطينية قوية وعقلانية فيجب ألا ننتظر أن يكون العالم أكثر غيرة وحرصا على فلسطين من أهلها.

إذا اقتصرت ردة الفعل الفلسطينية على التنديد والشجب وثلاثة أيام غضب فهذه أمور يمكن أن تستوعبها وتحتويها إسرائيل والإدارة الأمريكية، وهي ردة فعل لن تشجع دول وشعوب العالم بردة فعل أكبر مما فعله الفلسطينيون. المطلوب اليوم للرد على توجهات ترامب وعلى مؤامرة الصفقة الكبرى لتصفية القضية الفلسطينية أن تتخذ القيادة الفلسطينية قرارات حاسمة، كإعادة النظر في اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل وإلغاء ما على السلطة من التزامات بمقتضى اتفاقية أوسلو وخصوصا التنسيق الأمني، والعودة لمنظمة التحرير كحركة تحرر وطني، والتوجه للأمم المتحدة للمطالبة بالاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية أو أن تستلم الأمم المتحدة المسؤولية عن فلسطين وشعبها، وتفعيل حراك أو مقاومة شعبية عقلانية يشارك فيها الكل الفلسطيني.

بعد ما وصلت إليه الأمور وبعد ربع قرن من المفاوضات والمراهنة على سلام عادل تنكبت له واشنطن وإسرائيل، ليس من حق أحد أن يلوم الفلسطينيين إن أقدموا على هذه الخطوات، وللتذكير فإن المجلس المركزي اتخذ هذه القرارات في مارس 2015 في دورته المسماة (دورة الصمود والمقاومة الشعبية) وللأسف بقيت بدون تنفيذ ولو تم تنفيذ هذه القرارات أو بعضها في حينه ما وصلت الأمور إلى ما نحن عليه.

كانت الإدارة الأمريكية تطلب من الدول الغربية عدم الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتستعمل حق الفيتو في مجلس الأمن ضد أي قرار بهذا الشأن بحجة أن أي إجراء من طرف واحد سيؤثر على عملية التسوية السياسية، والآن وبعد أن ضربت واشنطن بعرض الحائط مرجعيات التسوية السياسية وقرارات الشرعية الدولية نعتقد أنه لم يعد ما يمنع الدول الأوربية على رأسها فرنسا أن تعترف بالدولة الفلسطينية، وعربيا وإسلاميا فإن الرهان ليس على الأنظمة بل على الشعوب وهذا مرتهن بطبيعة التحرك الفلسطيني، وهل القيادة الفلسطينية مستعدة للتصعيد وقلب الطاولة؟ أم ستمنح واشنطن وحلفاءها العرب فرصة جديدة لاختبار النوايا، مع اعتقادنا بأن النوايا انكشفت ولم يعد مجال لمزيد من الجري وراء السراب؟.

Ibrahemibrach1@gmail.com

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق