جاء في لسان العرب "الملك العقيم لاينفع فيه نسب لان الاب يقتل ابنه على الملك. وقال ثعلب معناه أنه يقتل أباه وأخاه وعمه في ذلك، والعقم: القطع ومنه قيل الملك عقيم لأنه تقطع فيه الارحام بالقتل والعقوق".
وبسبب عقمه استن الملوك سنة قتل الابناء والاخوان والارحام بل وكل ذي صلة بالأمر، فصارت عرفا في نظام الملوك الاجتماعي حتى أقره آل عثمان في سلطنتهم العثمانية فصار قانونا في نظام الملوك السياسي وهو ماعرف في قوانينهم بـ "القتل سياسة".
لكن القتل الأسري الذي يمارسه الملوك في تجارب الدول والممالك القديمة يكون مؤشرا على الضعف والانهيار الذي تنتهي اليه هذه الدول، ففي أواخر عهد الأسرة الكسروية وفي أيام زوال دولتهم الساسانية عمد قباذ اخر أكاسرة الفرس من بيت الملك الى قتل ثمانية عشر من أخوته نتيجة الحرص على العرش والخشية من انتزاع الملك، فالعقيدة الايرانية القديمة في السياسة ان الملك والصولجان مخصوص بأسرة الأكاسرة ولا يجازف أحد من أفراد الأسر النبيلة أو من عامة الشعب بالاستيلاء على العرش أو المطالبة بصولجان الملك، وكانت تلك العقيدة تبعث الخشية في نفوس هؤلاء الملوك الأكاسرة من منافسة أشقائهم من الامراء على السلطة والحكم لأنهم يمتلكون الحق في ترشيحهم لأعلى سلطة في الدولة.
ونجد هذا القتل مرة أخرى ووفق مبتنى هذه العقيدة في البيوت المخصوصة بالملك في دولة بني العباس التي كانت تبرمج الذهنية الاسلامية بان الحكم والخلافة محصورة ومخصوصة في بني العباس لان الامامة في قريش وهم في صلب قريش وقد ادعوا انهم آل بيت النبي وأولى أسر قريش بالحكم والملك، فعمد الهادي العباسي الى حبس أخيه هارون في مدة حكمه ولو طال به الأمر لقتله فما كان من الخيزران أمهما الا ان أمرت جواريها بان يجلسن على فم الهادي في فراش نومه فمات خنقا بعد ان سعى هو قبل ذلك الى دس السم الى امه الخيزران فلم يفلح، وحين بلغ هارون الحكم والخلافة أسس لمقولة ان الملك عقيم فقد خاطب ولده المأمون "ان الملك عقيم ولو نازعتني أمره لأخذت الذي بين عينيك"، وقد فعلها ولديه الأمين والمأمون فكل منهما سعى الى قتل اخيه فتعجلا بإعلان حربهما كل على أخيه بعد موت هارون فتمكن المأمون من أسر الأمين وقتله وانفرد بالخلافة والحكم، وقد استحر القتل في خلفاء بني العباس وبينهم منذ عصر المستعين العباسي تـ 252هـ فقد كان الخليفة وأخ الخليفة أو أبن عمه يتآمرون مع العساكر من الترك بعضهم ضد البعض من أجل الخلافة والحكم حتى أفلت دولتهم وانتهىت خلافتهم.
لكن هذا العرف الذي درجت عليه الملوك في المنطقة وقامت عليه أنظمة الحكم في الممالك القديمة، تحول الى قانون ينص عليه دستور الدولة العثمانية في بنود تنظيم السلطنة وحفظ سياسة العالم كما كان العثمانيون يطلقون على حالة النظام العام في دولتهم ومجتمعهم، وقد عرف هذا القانون لديهم باسم "القتل سياسة"، وطريقة القتل فيه بواسطة الخيط من الحرير بلفه حول رقبة الأمير الأخ أو الابن فيموت أو يقتل خنقا، وقد أجازه فقهاء الدولة العثمانية لسلاطين آل عثمان وأدخلوه أو برروا ادخاله في بند "البغي" ومحاربة البغاة من الخارجين على الدولة، وينص قانون القتل سياسة على جواز شرعي للسلطان أن يقتل اخوانه وابناءه لغرض حفظ النظام أو كما يسمونه "حفظ العالم"، وقد سوغ هذا القانون لسلاطين آل عثمان القيام بمجازر أسرية دون رحمة أو شفقة، وكان أول من فعل ذلك هو مراد الأول الذي قتل شقيقه محمود بإجازة الفقهاء له، وتبعه على ذلك السلطان سليمان القانوني فقتل ابنه الأمير مصطفى وحفيده من ولده مصطفى ليكون السلطان لولده الآخر سليم الثاني من محظيته المسيحية هويام، ويحكى ان له ثمانية عشر ولدا توفوا في حياة أبيهم ما خلا اثنين فقط مما يدعو الى الشك في غموض نهايتهم.
لكن ذلك كان قبل صدور هذا القانون الذي استنه محمد الفاتح، ويقال ان هذا السلطان قتل أخ رضيع غير شقيق له حتى يطمأن على ملكه ومستقبله من منافسته اذا بلغ مبلغ الرجال، واستمرت سياسة القتل المتبعة لدى سلاطين الدولة العثمانية حتى ان محمدا الثالث خرجت من قصره يوم تسلم مقاليد السلطنة عشرين جنازة واحدة كانت لأبيه السلطان مراد الثالث والتسعة عشر الباقية كانت لأخوته الذين قتلهم كلهم في ساعة واحدة، ويقال انه قتل اضافة الى ذلك ثلاثين أختا له. واذا كانت تلك الممالك تقوم وفق مبدأ العصبة الخلدوني وهو المبدأ في قيام الدول والممالك القديمة فان القتل في العصبة سيورث انحسار الملك في هذه العصب الملكية ومؤشر زوال الملك فيها.
لقد تجاوزت بعض الأسر المالكة هذه المشكلة بعد ان ادركت خطرها وحفظا لقانون العصبة في بقاء فاعليته من ناحية أخرى فعمدت الى تقنين السلالة الملكية بتوريث الابن الاكبر ثم الابن الاكبر من سلالته بشكل عمود ملكي في الاسرة، وهو ما صنعته عائلة الملك حسين في الاردن حيث عمد الى تنحية أخيه ولي العهد حسن واحلال ولده عبد الله محله ملكا في المملكة الاردنية، وهناك توريث ملكي يقوم على مبدأ توريث الاخ الاكبر وانتقال الملك بين الاخوة الاشقاء حصرا الاكبر فالأصغر ثم الاصغر وهكذا تنتقل بشكل افق ملكي، وهو ما صنعه عبد العزيز آل سعود لغرض ديمومة الملك في اسرته، لكن اسرته قد تورطت في هذا النوع من القتل الاسري الملكي اذ قتل أشهر ملوكها وهو الملك فيصل الذي جاء الى سدة الحكم والملك على أثر ازاحة أخيه الأكبر سعود وبتواطؤ مع رجال دين من قادة الحركة الوهابية قادة المذهب الرسمي في المملكة السعودية، وهو ما يذكرنا بتواطؤ فقهاء الدولة العثمانية مع سلاطينها في اباحة قتل الاشقاء والابناء، الا ان الامور استقامت لفيصل واخوانه من بعده، وكان مفهوم العصبة التقليدي هو الذي يرسخ بقاء الملك في آل سعود اضافة الى المنزع الديني الوهابي في هذه المملكة الذي كرّسه اتفاق محمد بن عبد الوهاب مؤسس الحركة الوهابية مع محمد بن سعود أمير الدرعية والجد الاعلى لآل سعود بتقاسم السلطتين الدينية والسياسية بين ذريتيهما واحفادهما وبقاء الملك والسلطة فيهما، وكذلك كان يرسخه فائض البترول ومردوده المالي الذي أغرق أفراد هذه الاسرة في مستنقع المال التجاري وأغرق المملكة في مستنقع المال السياسي.
الا ان العصبة ووفق القراءة الخلدونية بل والقراءة التاريخية لها تسير دائما باتجاه الاضمحلال والزوال بعد تأسيس الملك وانتقال اطواره، واذا كنا نختار المنهج الخلدوني في قراءة واقع المملكة السعودية ونطبق عليه معايير العصبة الخلدونية ذلك لأنه منهج قديم يتماشى ويتماهى وقراءة الممالك القديمة والدول العتيقة التي عفا عليها الزمن وتجاوزها التاريخ وواحدة منها بل بقيتها هي الدولة السعودية التي لا يمكن ان تنتسب الى مصاف الدول الحديثة، والعصبة تنتهي دائما في الممالك القديمة بالقتل على يد اوليائها مما يؤشر زمن زوالها وانتهاء عصرها.
وهكذا يمكن تفسير سياسة ولي العهد السعودي وبمؤازرة أبيه الملك سليمان تجاه أفراد الاسرة السعودية المالكة فهو يستحضر قانون آل عثمان في القتل سياسة ليحوله الى مبدأ القتل السياسي بإخراج كل هؤلاء الامراء من آل سعود من كل دوائر المُلك المقربة لاسيما دائرة العصبة، ويعلن انحلال عصبة آل عبد العزيز بن سعود لتحل محلها عصبة أسرة الملك سليمان بن عبد العزيز، لاسيما وانه الاخ غير الشقيق للملوك الذين سبقوه من ابناء عبد العزيز ومن شروط اختصاص العصبة بأسرة الملك سليمان ان يحصر المال التجاري والسياسي بهذه الاسرة فالمال والوفرة المتحققة فيه هو الذي تقومت به الدولة السعودية ونشأت به تلك المملكة ولم يكن لها مقّوم آخر سوى المال الذي جنته في اعقاب اكتشاف النفط في اراضيها، ثم تحققت وفرته بشكل استثنائي في اعقاب الطفرة النفطية التي حدثت في سبعينات القرن العشرين، ولذلك عمد ولي العهد محمد بن سليمان الى خطوتين اساسيتين في الممالك التقليدية والدول العتيقة بتصفية الخصوم والمنافسين المحتملين في محيط البيت الملكي ودائرة الاسرة الحاكمة من الاخوة الاشقاء وغير الاشقاء وابناء العمومة من ابناء الملوك السابقين، فقد كان حجز أحد عشر أميرا من افراد الاسرة المالكة وممن يشغلون مواقع عليا ومهمة في قمة هرم الدولة السعودية، وحجز ملوك المال التجاري في الدولة لغرض حجز المال المؤثر في الدولة وسياسة الدولة، وهي الخطوة الثانية التي تؤشر مخطط ملكي قديم في تجربته في نفوق أمر العصبة واستعادة حدث طالما لازم سياسات الممالك القديمة في أواخر لحظات بقائها وهو التمزق الاسري الملكي الذي جاء على يد محمد بن سلمان بطريقة القتل السياسي الذي قد يكون مقدمة للقتل الجسدي الذي يذكرنا بالقانون العثماني "القتل سياسة".
ومن العقم والملك العقيم منه يكون في اللغة العقام وهنا يقول الجوهري العقام: الداء الذي لا يبرأ منه، ويبدو ان داء القتل سياسة لايبرأ منه الملوك المستبدين والطغاة المتجبرين وهو تقليد متبع في النظام السياسي العربي.
اضف تعليق