مرة اخرى تتخذ الدول الاوربية موقفا سلبيا من العراق، وتطرح افكارا تتسرب من خلالها اللغة الاستعمارية وان تم انكارها علانية. فرنسا تدعو لتفكيك هيئة الحشد الشعبي الرسمية والتي اسهم مقاتلوها في طرد تنظيم داعش الارهابي وتحريرهم كامل الاراضي العراقية.
التطاول الفرنسي جاء من اعلى سلطة في البلاد على لسان الرئيس ايمانويل ماكرون، الذي دعا الى نزع تفكيك تدريجي لقوات الحشد الشعبي، وجاءت هذه الدعوة خلال لقاء جمع ماكرون مع رئيس الوزراء في اقليم كردستان نيجيرفان برزاني في باريس، والذي لا يحظى بشعبية لدى هيئة الحشد الشعبي وجمهورها العربي الذي يرى في عائلة البرزاني قد "خانت" العراق باجرائها الاستفتاء.
هذه الدعوة اثارت قيادات سياسية عراقية من بينهم نائب الرئيس العراقي السيد نوري المالكي، اذ قال عبر مواقع التواصل الاجتماعي "يفاجئنا الرئيس الفرنسي بتدخل مرفوض في شؤون العراق الداخلية ويطالب بحل مؤسسة رسمية قانونية هي هيئة الحشد الشعبي المجاهد". ورفض هذه المواقف بشدة واعتبرها مساس بسيادة العراق ومؤسساته وتتعارض حتى مع الدستور الفرنسي.
وتتفق الكثير من الاوساط الشعبية والرسمية على رفض هذه التصريحات الفرنسية، وبعض المحللين لهم رأي يختلف قليلا اذ استهجت الصحافة العالمية والمتابعين للشان السياسي الفرنسي تحديدا عدم فهم الرئيس الفرنسي لبروتوكولات السياسة وغياب اللباقة في اطروحاته سواء ازاء العراق او الدول الاخرى، ونكتته في بوركينا فاسو قبل ايام والتي اعتبرت اهانة لرئيس البلاد كانت تعبر عن مدى خبرة هذا الرئيس الشاب.
الدول الغربية تعد العراق احد اكبر الاخطار على طموحاتها في منطقة الشرق الاوسط، حيث الصراع الدولي على اشده، ومنذ سنوات ارادت كسر ارادته وقدرته على لعب ادوار مهمة في ازمات المنطقة واخذ مكانته الحقيقية. اذ ورطوا نظام صدام واستفادوا من اندفاعه فاوقعوه في حرب استمرت لثمان سنوات مع ايران، وبعدها جاء احتلال الكويت وما تلاها من ويلات لحقت بالعراق جعلته ينكب على تضميد جراحات الداخل ومتناسيا اي طموح اقليمي.
وخلال اثني عشر عاما بعد حرب الكويت ثبتت الولايات المتحدة الامريكية كل مستلزمات الهيمنة على المنطقة، وبقي العراق طوال هذه المدة رغم ضعفه الشديد يمثل تهديدا في نظر القيادات الامريكية، بالاضافة الى كونه مفتاحا لاحكام القبضة اكثر على المنطقة.
وباحتلال العراق عام ٢٠٠٣ اراد الامريكيون تحطيم ما تبقى للعراق من قوة عسكرية قد تهدد في يوم ما المصالح الامريكية في العراق او الشرق الاوسط، فكان حل الجيش العراقي بقرار الحاكم الامريكي بول بريمر يعني اشارة طمأنة للولايات المتحدة الامريكية.
قرار حل الجيش العراقي لم يكن له ان يحدث لو لم تستفيد القوى المحتلة من اصوات داخلية مؤيدة لهذا القرار (جهلا او قصدا)، لكنها في النهاية اعادت العراق الى ما قبل تاسيس الدولة في عشرينيات القرن الماضي حيث كانت اقوى طموحات العراق هو الشعور بكيانه ووجود حماية لهذا الكيان توفرها قوة ضاربة اسمها "الجيش العراقي".
قرار بريمر كان عبثيا وينم عن خوف كبيرة لدى القيادة الامريكية المحتلة في ذلك الوقت، والتكلفة الباهضة التي تحملتها من خلال انعدام الامن والاستقرار تكشف عن عدم وجود رؤية امريكية طويلة الامد تجاه العراق، ومن اخطر النتائج التي نجمت عن قرار حل الجيش العراقي الحرب الطائفية خلال تولي اول سلطة منتخبة مقاليد الحكم في البلد.
وبعد سنوات تشكلت نواة الجيش العراقي بحلته الجديدة كما اراد الامريكان لها، لكن هذا الجيش ظل فاقدا لبوصلة العقيدة العسكرية، واستشرى الفساد فيه ففشل في اول اختبار حقيقي له عام ٢٠١٤ حينما اجتاحت داعش ثلثي اراضي البلاد في غضوان ايام دون مقاومة تذكر.
بعد النكسة الكبرى في الموصل اكتشف العراقيون انهم لا يعانون نقصا في الرجال انما المشكلة في غياب البوصلة الدقيقة لمقاتليه، فكانت فتوى الجهاد الكفائي التي اعلنها المرجع السيستاني كفيلة ببث روح "عظيمة" في عناصر الجيش العراقي واعطوا اغلى ما يملكون، وقدموا نماذج في البطولة والدفاع عن حياض البلد، اذ يستذكر الشعب العراقي ذلك المقدم الركن علي سعدي النداوي الذي الهم رجال الجيش العزيمة والثبات، هذا القائد العسكري الهمام قدم نفسه في اول ايام الحرب ضد داعش وذهب شهيدا لكنه اعطى درسا بطوليا لن تنساه الاجيال.
لكن هذه العزيمة والهمة العالية لم تكن كافية لمواجهة التحديات فكان لزاما ان تتشكل قوة عقائدية تسد بعض الثغرات في منظومة الدفاع العراقية وهو ما تكفلت بها قوات الحشد الشعبي التي يصل تعدادها الى حوالي ١٢٠ الف مقاتل، واخذت على عاتقها خوض عشرات المعارك ضد تنظيم داعش ويوما بعد اخر استعادت المنظومة الدفاعية الوطنية توازنها بشكل سريع جدا اذهل الجميع بمن فيهم من استهزؤوا بنكسة الموصل.
منذ الايام الاولى لاعلان فتوى الجهاد الكفائي باتت حماية العراق مكفوة بخطين متوازيين لا يمكن فصل احدهما عن الاخر هما الجيش والحشد الشعبي، وبهما تكتمل اركان الدولة العراقية.
بعد كل الويلات التي لحقت بالعراق نتيجة التدخلات الغربية بالمنطومة الدفاعية للعراق منذ تاسيس الدولة العراقية وحتى سقوط الموصل عام ٢٠١٤؛ ياتي الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لحل تدريجي للحشد الشعبي، وكان العراق ولاية فرنسية يحق له التصريح والتقرير نيابة عنها.
المشكلة التي واجهت العراق منذ سنوات وتتكر ذاتها هذه الايام هي القوى الداخلية العراقية المعارضة للنظام الحاكم، هذه القوى مستعدة للتضحية باي شيء من اجل الحصول على مقعد الرئاسة والحكم في البلاد، حتى وان ادى ذلك الى حل المنطومة الدفاعية الوطنية وتفكيكها، وهذه القوى تستفيد منها فرنسا وامريكا وجميع الدول الطامحة للايقاع بالبلد.
تصريحات ماكرون يجب ان تاخذ على محمل الجد من قبل القيادات العراقية، وهي ليست كلاما عابرا كما يقول منتقدوا ماكرون الذين يصفونه بقليل الخبرة، انما هي تعبير عن سياسة دولية "غربية" لا تريد للعراق ان يملك قوة تستطيع حماية اراضيه.
والاخطر في هذه القضية ان ما يصدر في عواصم القرار العالمي يترجم في الارض العراقية على شكل ازمات داخلية وتوترات سياسية وامنية، وليت العقلاء يتذكرون دائما ان حل الحشد الشعبي يشبه تماما حل الجيش العراقي عام ٢٠٠٣، وبغض النظر عن كل التوجهات والانتقادات الداخلية ضد الحشد الشعبي، (وهنا نتحدث بلغة الوطن والمهنية) لا بد وان يبقى الحشد والجيش احدهما يكمل الاخر، مع الاخذ في الاعتبار العمل على مؤسسة الحشد وتنظيمه باجراءات صارمة.
اضف تعليق