قد يُبتلى الإنسان بمشاكلَ ليست من صنع يده، وقد تكون أكثر شدّة وألما من المشاكل التي يصنعها الإنسان لنفسه، وفي كل الحالات ليس هناك طريق أمامك سوى الصبر، فهو الملاذ والدواء الناجع لإطفاء نيران المشكلات وحرائقها الكبيرة والصغيرة، ولهذا لو نتنبّه لأنفسنا سنلاحظ بأننا نركّز ونكرر دائما مع أنفسنا أو بصوت عالٍ بأن (الصبر مفتاح الفرج)، وهو كذلك بالفعل، وحتما سيكتشف الناس أن صبرهم وحكمتهم وأملهم الكبير بالعدل الإلهي، هو الطريق الأسرع لمعالجة كل ما يعانون ويقاسون من مشاكل وآلام، وأن حالات العقوق التي يتلقاها بعض الآباء من أبنائهم لن تمر بدون عقوبة مماثلة.
هذه الكلمات التي دوَّنتها في أعلاه، كتبتها خصيصاً لأخي الذي يكبرني بثلاث سنوات، أخي الذي لم أشعر بأنه شقيق لي، أو أنه خرج من نفس الرحم الذي وُلدتُ منه، ولا أعرف حتى هذه اللحظة من أين جاء هذا الأخ بكل هذا الجحود لأبينا، وكيف يمكن للابن أن لا يمد يده لأبيه وهو يعيش أيامه الأخيرة، خصوصا أن الأب قدم له كل ما يريد ويرغب، ووفر له كل ما يجعله إنسانا ناجحا في حياته، فالعزّ والهناء الذي يعيش فيه أخي، ليس كله من صنع يديه ولا ذكائه ولا مؤهلاته، إن ثروته في الحقيقة من صناعة عقل أبي، ومعاونتنا نحن أخوته له، وإلا لما كان قد طوّر نفسه وثروته قيد أنملة.
ثم من أباح للابن الذي يصبح ثريا أن يعقَّ أباه، ويجحده حقّه؟؟، أليس الصحيح أن الابن يجب أن يرعى أباه ويهتم به وينفّذ طلباته حتى لو كان فقير الحال، فما بالك لو كان يمتلك ثروة كبيرة تكونت بجهود الأب وفضله على ابنه وبمساعدة أشقائه والحظ الذي وقف الى جانبه، لكن ماذا حصل الأب من ابنه وماذا استفاد إخوانه منه؟؟ في الحقيقة لم يحصل منه أب ولا أخ على دينار واحد، والغريب كلما ازدادت أمواله وثروته ازداد عقوقه وجحوده!!.
ما أقسى هذا القلب
وإذا وضعنا الأموال جانبا، ألا يحق أن نتساءل: هل يجوز للابن البخيل أن يبخل على أبيه حتى بالزيارة، والسلام والاطمئنان حتى من باب إسقاط الفرض، فإذا كان هذا الابن العاق خائفا على فلوسه، هل يحق له أن يبخل بمشاعره على أبيه، وماذا سيخسر لو انه يصرف (بعض الكلمات والمشاعر) كي يطيّب خاطر أبيه المريض ويشد من أزره لمواجهة الأوجاع والألم، ولكن حتى الكلمات بالمجان، كان يستكثرها هذا الولد العاق على أبيه، فابتعد عن زيارته وتهرّب من إخوانه، فحتى حين يتصلون به عبر الموبايل يرفض الإجابة عليهم، والمؤلم والمؤسف والمثير للحزن، حتى أبوه حينما يتصل به لا يجيب عليه، فما أقسى هذا القلب، وما أشد جحوده وعقوقه، خاصة لا توجد أية أسباب تبرر هذا الجفاء والتهرّب سوى بخله وعقوقه.
كان أبي في أيامه الأخيرة كما يبدو من تدهور صحته يوم بعد آخر بل ساعة بعد أخرى، وبعد أن قمت بتدبير مبلغ يكفي لأخذه الى الطبيب، كان أشقائي في دوامهم العسكري، ولا يوجد أحد منهم إلا أخي الثري البخيل، فذهبتُ له بنفسي، وأخبرته بالتفصيل عن حالة أبي المصاب بالشلل النصفي، وضغط الدم والسكري، ويعاني اليوم أيضا من مرض (الدزنتري) الخطير، وما علينا سوى الذهاب به الى الطبيب، وكنت قد ذهبت الى مركز المدينة كي أحجز لأبي عند الطبيب المختص، وكان الزحام شديدا، فاضطررت لانتظار الطبيب كي اشرح له حالة أبي وكي ندخل الى الطبيب بغض النظر عن تسلسل المرضى، فاتصلت بأخي لكنه لم يفتح الخط، اتصلت بشخص آخر وطلبت منه أن يذهب لأخي ليجلب أبي الى مركز المدينة، ذهب الوسيط لأخي وأخبره بالطلب، وكالعادة اعتذر وتحجج بحجج واهية، فأتيت له بنفسي الى البيت ثم عدتُ به الى الطبيب.
أما المشكلة الأكبر، فهي تتمثل بمكان عيادة الطبيب التي توجد في الطابق الثالث من العمارة، ولابد أن أحمل أبي إلى العيادة صاعدا به درجات السلّم لثلاثة طوابق، كان أبي ذا هيكل عظمي خشن وأطراف طويلة، وأنا ضعيف الجسد، والمشكلة الأخرى أن المصعد الكهربائي للعمارة كان عاطلا عن العمل، وهكذا اجتمعت المشاكل كلها لتقف في وجهي، لكن مع ذلك حملت أبي على ظهري، وبدأت أصعد السلالم درجة درجة، وحينما كنتُ أتعب حتى يكاد يُغمى عليّ، أتوقف وأسحب أنفاسي ببطء شديد، وأخيرا بلغت طابق العيادة، ولكن استغرق ذلك وقتا طويلا مني، فالشخص لوحده يمكن أن يصعد إلى العيادة في دقيقتين، ولكنني حين حملت أبي وصعدتُ به استغرق ذلك نصف ساعة من الزمن.
علامات الموت الموحشة
ومن العجيب أن بعض المواقف تحدث في غير وقتها المناسب، كنت وحيدا مع أبي، متعبا، وحزينا أيضا، وكل أملي أن الطبيب سوف يعالجه ويخلصه من حالة الضعف والوهن واضطراب القلب والتعرّق الشديد الذي يحصل لجسمه وجبينه، وكم هو صعب عندما يرغب أبوك بشيء ما ولا تفهم كلماته بسبب الشلل، فقد كان لسانه عاجزا عن الحركة وكانت الكلمات تخرج من فمه ناقصة مبهمة وغير مفهومة، كان يريد أن يقول لي شيئا ما، لكن لم أفهمه، وعندما رأى أحد الشيوخ حيرتي وألمي لأنني لم أفهم طلب أبي، اقترب مني وطلب مني أن أعود بأبي الى البيت بأقصى سرعة، سألته لماذا أعود به، أنا جلبته للطبيب بشقّ الأنفس، فتقرب من أذني أكثر وقال:
- أبوك يريد أن يموت في البيت، هذا هو طلبه!!.
وعندما حاولت أن أستفهم عن الأمر من أبي، أغلق عينيه كأنه في حالة نوم، وهدأت حركة أطرافه ولم يعد يطلبُ أي شيء مني، كان هادئا صامتا دون صوت أو حركة، صرخت طالبا الطبيب، خرج الطبيب من عيادته، وبدأ بالفحص سريعا، بعد دقائق قليلة أخبرني بأن أبي لفظ آخر أنفاسه.
البكاء بالطبع لا ينفع في مواقف كهذه، وكذا لا يفيد الأسف بشيء، الأمر الوحيد الذي يتضاعف في القلب هو الألم والحسرة على الأب الذي غادر الحياة دون أن يرى ابنه (العاق).
مات أبي، ذهب الى دار حقه، وكم كنت أتمنى لو أنه يغادر هذا العالم وهو راضٍ عنا، مع أنني لم ألحظ الزعل في عينيه حتى على أخي الجَحود الذي لم يكلف نفسه زيارة أبيه في آخر يوم له، وحينما اتصلت عن طريق وسيط ليخبره بأن أباه قد (مات)، وعليه أن يأتي لعيادة الطبيب كي نعود به الى البيت ونقوم بإجراءات الدفن، لم يأتِ كأن هذا الخبر لا يعنيه بشيء، تُرى لماذا كل هذا العقوق، وماذا يتأمّ الإنسان، هل سيبقى على قيد الحياة الى الأبد، وماذا يتوقع من أبنائه، حين يلاحظون جحوده وعقوقه مع أبيه، هل يضمن أن أبناءه سوف يحسنون التعامل معه؟؟ كلا بالطبع، إنه سيتذوق العقوق نفسه، والإهمال نفسه، وهذا ما حدث بالضبط لأخي العاق.
لقد مات أخي وحيدا، ولم تنفعه ثروته ولا أمواله رغم أنها كثيرة جدا، ولا أولاده أيضا (يوم لا ينفع مال ولا بنون) وذهب الى ربّه حاملا معه ذنوبا ثقيلة جدا، أكبرها عقوقه لأبيه وإهماله له حتى آخر لحظة في حياته.. لقد ذاق العذاب الذي أذاقه لأبيه، وعاش ألم الجحود الذي كان يتعامل به مع أبيه، وفي اليوم الثاني قبل نهاية (فاتحة) الابن العاق، شاعت بين الناس والأقارب والمعارف، المعارك والمشادات الكلامية بين الأبناء على الثروة التي تركها خلفه ولم يأخذ منها أي شيء معه الى القبر.
اضف تعليق