ليس كل أحد يمارس التفكير بنفس الصورة. فالبعض يُعمل تفكيره في حدوده الدنيا فقط، والبعض يحبذ التفكير تحت سقف المألوف، ولا يتردد في استخدام القمع لكبح جماح تفكيره لو عنَّ له ذلك ذات غفلة. والبعض يُطلق لتفكيره العنان ليبدع وينتج ما لم يستطعه الأوائل. وهؤلاء هم المفكرون بحب. وهم على مدار التاريخ من تمكنوا من ترك بصماتهم واضحة في مسيرة البشرية. عشقوا التفكير، وتعلقوا به، فلما رأى منهم الصدق منحهم من فيضه، فحلقوا به في سماوات الإبداع. أما المعطلون والمترددون فلم يتقدموا خطوة واحدة للأمام، وظلوا قانعين بالمقاعد الخلفية في قاعة مسرح الحياة.
وبرغم ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة من حث على التفكير وإعمال العقل ومدح للذين يتفكرون، نشهد تراجعا كبيرا على مستوى الأمة في تطبيق هذا الأمر في حياتها العملية. ولذا تراجع حضورنا وأصبحنا غائبين أو مغيبين عن المشهد الحضاري الكوني. لقد تحولنا إلى مجرد مستهلكين نقتني ما ينتجه الآخرون، وما يفرضه علينا ذوقهم وثقافتهم، دون أن تكون لنا أدنى مشاركة في عملية الإنتاج وما قبلها. وبعبارة مختصرة أصبحنا على هامش الهامش، هذا إن تكرم وقبل بنا مشكورا.
من يصدق أننا نتلو آيات التفكر ليل نهار، ونحفظ الأحاديث والروايات في فضله، ثم لا نجهد أنفسنا في التفكر في واقعنا المتخلف على كل الأصعدة، وما يحتاجه من اجتراح أفكار استثنائية لإحداث الدفعة القوية الصعبة التي تنقله إلى ركب الحضارة والحداثة.
ولو أردنا تشخيص الحالة التي وصلنا لها، وقمنا بعرض حالنا على القرآن الكريم، فإننا سنتبين أي مرحلة خطيرة هذه التي نمر بها. فهذا القرآن الكريم يعلمنا أن المجتمع الذي يعطل التفكير يفقد القدرة على التمييز بين الغث والسمين، وبين الخطأ والصواب، ويستوي عنده الشيء وضده، وبعبارة أخرى يصبح مجتمعا غير مميِّز: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ). ومعلوم أن غير المميِّز بطبيعة الحال لا ينتفع بالآيات التي يتلوها، لأنه لا يدرك حقيقة قيمتها وأهمية العمل بها، لفقده شرط الانتفاع وهو ممارسة التفكير: (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
لذا فالواجب علينا إذا أردنا نخرج من هامش الهامش إلى المتن، أن نؤسس لعلاقة جديدة مع التفكير والمفكرين وبيئة التفكير، كي نحب التفكير ونتفكر بحب.
الممارسون للتفكير بحب
الممارسون للتفكير بحب هم الذين تمكنوا من ابتكار الأفكار الإبداعية التي أحدثت فاصلا بين ما قبلها وما بعدها. كتاب (أفكار سبع هزت العالم) للمؤلفَين: نيثان سبيلبرج و برايون أندرسون، يشرح أفكارا استثنائية توصل لها مبدعون مارسوا التفكير بصورة مختلفة عن الآخرين، غيرت الكثير من المفاهيم المستقرة، وزحزحت رؤى ونظريات قديمة حكمت العالم قرونا طويلة. جاء في مقدمة الكتاب: "من الممكن اعتبار المشاركين الأفراد في تطوير وتوضيح التفكير العلمي على مدى 500 عام مضت ضمن أعظم الثوريين وأكثرهم نجاحا في العالم. لم تقع الثورات التي قادها هؤلاء الأفراد بين ليلة وضحاها. بل إنها تطلبت في حالات كثيرة عقودا إن لم يكن قرونا لاستكمالها. ومع ذلك، فقد أدت أعمالهم إلى ظهور أفكار ومفاهيم جديدة عن العالم والكون ومكانة البشر فيهما."
إن شخصيات مثل كوبر نيكوس وجاليليو ونيوتن وآينشتاين وماكس بلانك وفيرنر هايزنبيرغ يجمعهم ناظم واحد هو عشقهم للتفكير الإبداعي الذي لا يعيش إلا خارج صندوق التفكير الميسور. هؤلاء وغيرهم من المفكرين المبدعين لم يحققوا إنجازاتهم من فراغ، وإنما من خلال عملهم الدؤوب وإصرارهم العنيد وإرادتهم الفولاذية وإيمانهم العميق بقدراتهم الخلاقة وإعمالهم للخيال المبتكر. وهذا ما نريده أن يتوفر في الأجيال الشابة في مجتمعاتنا حتى نخرج من دائرة التخلف المغلقة المحيطة بنا من كل جانب، وحتى نتمكن من مشاركة المبدعين في صنع المستقبل.
لا شك أن الطريق أمامنا طويل جدا، ولكن علينا أن نبدأ الخطوة الأولى اليوم وليس غدا، فالوقت لا يجامل أحدا. هناك الكثير من معوقات الإبداع التي ينبغي العمل على التخلص منها، بعضها يعود لأسباب شخصية، وبعضها لأسباب اجتماعية كما يذكر الدكتور عثمان الخضر في كتابه (التفكير أساليب ومهارات). من الأولى يذكر: الخوف من الفشل، الخوف من النقد، المسايرة الاجتماعية، عدم تحمل الغموض، مقاومة التغيير، ضعف الحصيلة اللغوية، عدم الثقة بالنفس، مسايرة المألوف، التسرع، الاعتقاد بأن هناك حلا واحدا لأي مشكلة. ومن الثانية: التعليم التقليدي، التنشئة الأسرية الصارمة، المشكلات الأسرية، تجاهل المبدعين وعدم تشجيعهم.
من وجهة نظري أن ممارسي التفكير بحب هم من يركز أكثر على إزالة المعوقات الشخصية بشكل أساسي، لأنها تقع تحت دائرة نفوذهم، مما يمكنهم من استثمار قدراتهم العقلية بصورة أفضل. للعلم فإن المخ الطبيعي "به حوالي 100 مليار خلية عصبية. يتصل كل منها ويتواصل مع ما يصل إلى 10 آلاف خلية أخرى. وتشكل هذه الخلايا مجتمعة شبكة معقدة تضم ما يقرب من 1 كدريليون (رقم عبارة عن واحد وإلى جواره 15 صفرا) وصلة". إنه "أعقد شيء اكتشفه العالم" بحسب وصف جيمس واطسون الذي حصل على جائزة نوبل لإسهامه في اكتشاف الحمض النووي.
وزنه يعادل 2% من وزن الجسم، ولكن يمكنه أن يغير العالم حولنا حين نحتضنه بحب.
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا
اضف تعليق