رغم شدّة الازمات و ضراوة الحروب التي خاضها المجتمع الشيعي على رقعة كبيرة من الخارطة، خرج مع أقل الخسائر في روحه ونفسية افراده، فان الاسقاطات الاقتصادية السيئة لم تترك أثراً كبيراً على واقعه الاجتماعي، كما لم يترك الإرث الديكتاتوري والقمعي للسياسات البائدة، اثراً في منهجه الفكري ومنظومته الثقافية، فقد احتفظ هذا المجتمع بتماسكه وتوازنه الى درجة ملفتة للمراقبين والخبراء في العالم، ليس هذا وحسب، بل وتجاوزا المرحلة ويشكلوا واقعاً جديداً في الساحة الاقليمية والدولية، والمثال الأبرز العراق في حربه وانتصاراته الباهرة ضد تنظيم داعش، وثمة أمثلة أخرى يمكن الإشارة اليها في البحرين وشرق السعودية ولبنان، بما أظهروه من حيوية ونهضوية وتوثب نحو الإصلاح والتغيير نحو الافضل، متجاوزين التحديات والضغوطات الجمّة التي قلّما يشهدها مجتمع آخر في العالم.
كل هذا مدعاة للفخر والاعتزاز، بيد أنه منجزٌ في ظل أزمات وصراعات فُرضت على المجتمع الشيعي فما كان عليه سوى الدفاع عن نفسه، مستعيناً بجذوره الدينية وقيمه ومبادئه، فيخلق البطولات والتحديات ثم الانتصارات التي لم تتم إلا بعد سيل من الدماء وتضحيات جمّة، فالشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من ابناء المجتمع الشيعي طيلة العقود الماضية، كانوا يمثلون شريحة النخبة في أخلاقهم والتزاماتهم الدينية وايضاً في مستواهم العلمي والثقافي، بما يعني؛ ان من مثلهم في أي مجتمع يمثلون قوة الدفع الاولى نحو التطور والتقدم في المجالات كافة.
من بعد ثورة العشرين ضاعت المبادرة!
لو تصفحنا تاريخنا منذ ثورة العشرين وما قبلها، نجد أن الشيعة في كل مكان كانوا اصحاب المبادرة في صنع الحدث وفرض الامر الواقع، وهذه المراجعة التاريخية تأخذنا الى صدر التاريخ الشيعي، وتحديداً منذ واقعة كربلاء والقنبلة الهائلة التي فجرها الامام الحسين، عليه السلام، وبقي صداها يتردد مع الزمان والاجيال، ثم تحول هذا الصدى الى ثورات وحركات معارضة للأنظمة السياسية المنحرفة عن الطريق الصحيح، ورغم القمع الشديد الذي جوبهت به تلك الحركات والثورات، لم يتوقف المجتمع الشيعي عن إنجاب الابطال الثائرين و عباقرة العلم والمعرفة والابداع، وإلا أين نشأ وترعرع علماء أفذاذ امثال الشيخ النائيني صاحب كتاب "تنبيه الامة وتنزيه الملّة" وهي أول رسالة من فقيه شيعي تشرّع لنظام سياسي قائم على المشاركة الجماهيرية في صنع القرار، بما يُسمى بـ "الديمقراطية"، أو من أمثال المرجع الديني الاعلى في زمانه؛ السيد محمد حسن الشيرازي صاحب ثورة التبغ في ايران، وايضاً الشيخ ميرزا محمد تقي الشيرازي؟ هؤلاء وغيرهم كثير عاشواً تحت سلطة الدولة العثمانية الموغلة بقمع الشيعة والتضييق عليهم.
ومنذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم، لدينا التضحيات والبطولات وحتى الانتصارات في الوقت الراهن، وكلها في موقع الدفاع وليس الهجوم، ربما غابت عنّا القاعدة: "افضل طريقة للدفاع الهجوم"، وحتى الحديث المأثور عن الامام علي، عليه السلام: "لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على فراش"، وهي دعوة واضحة وصريحة لخوض المواجهة والتصدّي الشجاع والواعي للقضايا العادلة.
ان القرار غير المكتوب وغير الصريح بالتراجع عن هذا المبدأ، سهّل عملية الفصل في الهرم القيادي، بين القاعدة الجماهيرية وبين الشريحة الواعية والمثقفة (القيادة الوسيطة) وبين قمة الهرم القيادي وهم؛ علماء الدين والمراجع، وعندما اصبحت الحوزة في وادٍ و الاستاذ الجامعي والباحث والكاتب والاديب في وادٍ آخر، بات الطريق سالكاً لأمثال صدام بأن يسوق الشعب العراقي الى حروبه الكارثية المدمرة.
ورب متحدث عن موقف هذا العالم او ذاك الخطيب إزاء بعض الاجراءات الحكومية المتعارضة عن الدين والاخلاق وهوية الشعب في العراق – مثلاً- بيد أن هذا يندرج ايضاً ضمن ردود الفعل لان هذا الموقف لم يكن ليواجه الحاكم في بغداد –أياً كان- وإنما كان يواجه واقعاً فرضه هذا الحاكم مستفيداً من عوامل عدّة مكنته من الاخذ بزمام الامور ليكون هو الرئيس والزعيم المطاع، فيما الدعوات بالتغيير والإصلاح كانت تمثل حركة مطلبية غير مضمونة النتائج، فعدم تنفيذ المطالب لم يترك أثراً في نفوس الجماهير او النخبة الواعية والمثقفة.
ومن الجدير ذكره في هذا السياق ما حصل لشخصية قيادية بارزة في العراق، مثل آية الله السيد حسن الشيرازي – رحمه الله- من اعتقال وتنكيل وتعذيب على يد سلطة حزب البعث، وهم بعد حديثي العهد بالحكم، وذلك عام 1970، وقد طُلب من أحد علماء الدين بالتدخل والضغط على الحكومة للإفراج عنه لعدم وجود أي حجة قانونية لاعتقاله، فكان الجواب: الاعتذار!! ثم عرف الجميع بأن المعجزة والتوسل بالأئمة المعصومين، عليهم السلام، هو الذي أنجى السيد الشيرازي من خشبة الاعدام في اللحظة الاخيرة، ثم يتحول الدعاء والتضرّع الى الله والأولياء الصالحين، هي الوسيلة الوحيدة لمواجهة الظلمة والطغاة للخلاص منهم!
قطع الطريق على الاجانب فكرياً وسياسياً
كما كان المشهد في عهد الأئمة الاطهار ومن بعدهم لقرون من الزمن؛ علماء الدين والفقهاء، الى جانبهم الادباء والشعراء والعلماء والوجهاء و ايضاً شيوخ القبائل والعشائر وغيرهم، علينا ان نعيد التجربة من جديد لفرض واقع يتناسب مع الهوية والتاريخ والحضارة التي نتحدث عنها ونَعد أننا ورثتها من بعد النبي الأكرم وأمير المؤمنين، صلوات الله عليهما، حينها سنرى كيف تتفجّر الطاقات والمهارات وتظهر العقول الباهرة في مجتمعنا، بدلاً من أن تكون ثمناً لحروب الدفاع عن النفس في مواجهة مؤامرات عالمية تم الاعداد لها منذ زمن بعيد.
فالعزائم الصلبة والارادات القوية والبطولات في سوح المواجهة هذه يفترض ان تظهر في سوح البناء والابداع والتطوير لتحقيق التقدم الذي أضاء اليه القرآن الكريم وايضاً دعوات و احاديث للنبي وأهل بيته، عليهم السلام.
وهذا ممكن جداً وسهل يسير اذا جرت مشاريع علمية وانسانية واقتصادية في المجتمع والدولة في اطار هذه العلاقة بين القيادة المرجعية والشريحة المثقفة والجماهير، لان في هذه الحالة لن يكون ثمة مجال لتدخل الاجانب؛ فكرياً او ثقافياً او اقتصادياً ولا حتى سياسياً، ومن ثمّ؛ نصل الى المرتبة التي نكسب فيها ونحقق المنجزات مع نسبة أقل من الجهد والخسائر.
اضف تعليق