6. عشر صور من المغالطة في السياسات الإعلامية
لن نتبع طرق التصنيف التقليدية للمغالطة بل نهتم بالصور المتداولة لها، بعض المغالطات تتمظهر في صور شتّى. وبما أن الأمثلة لا تعد ولا تحصى من صور المغالطة، فالعبرة هنا بالأمثال ليس إلاّ. ويدخل فعل تشريح هذه المغالطات في تمكين المشاهد أو المستهلك للمادة الإعلامية من الوعي الضروري لتحصين نفسه من سطوة ديكتاتورية الإعلام.
7. مغالطة التنميط أو مراكمة تبشيع الخصم
نتحدّث مرارا عن المغالطات التي تستند إليها وسائل الإعلام الموجّهة لتحريف الحقيقة وأساليبها في إعادة إنتاج الأحداث بالصورة التي تحدث فيها لدى المتلقّي تشويشا أو التباسا أو نوعا من الإلغاء الممنهج لقناعاته الطبيعية. وسأذكر بعضها تباعا في نوع من الحصر الاستقرائي. ولا غرو أنّ دراسة أنواع المغالطة هو السبيل الأيسر لتمكين الوعي من الممانعة ضدّ أشكال كي الوعي واحتواء الوعي. والمفهومان لهما دلالة دقيقة لا بدّ من الوقوف عندها مليّا. فأمّا مفهوم كيّ الوعي فهو نوع من المحو الكاسح للوعي بناء على صدمة تشبه الصاعقة التي تطفؤ الأنوار، يمكننا تشبيهها بالفورمتاج. صدمة الوعي بواقع يوحي بضرورة الاستسلام.
مفهوم كي الوعي استعمله وزير الحرب موشيه يعلون، حين كان يشغل منصب رئيس أركان جيش الاحتلال إبان الانتفاضة الثانية. كان الغرض هو إصابة الوعي الفلسطيني بالشلل لكي لا يفكّر في محاولات جديدة من المواجهة. هذا المفهوم استعملته إسرائيل ليس مع الفلسطينيين فقط بل مع الدول العربية بحيث جعلت مجرّد التفكير في المواجهة قضية ممتنعة حتّى على الخيال. وكانت معركة تموز لحظة تاريخية ليس فقط على مستوى خلق مناعة ضدّ كي الوعي بل مارست كي الوعي المعكوس تجاه الرأي العام الإسرائيلي مما جعل المقاومة تحقق انتصارا ملفتا على صعيد الحرب النفسية.
لكن ما أقصد به هنا احتواء الوعي هو استراتيجية مختلفة قصدت بها أنّ وسائل الإعلام في مثل هذه الحالة لا تسعى إلى محو الوعي وتغيير محتواه عن طريق الصدمة والعنف المفرط بل هو شكل من التغيير يقوم على التشويش على الوعي للتخفيف من ثقل قناعاته ووازعه المبدئي. الهدف هو زرع شكل من تساوي الأدلة في منطق الوعي وهو أمر من شأنه أن يفصل بين الوعي والموقف، لأنّ الوعي إذا داخله الإلتباس تراخى في الموقف. وهذه الطريقة تجعل الحامل الفردي أو الجمعي لهذا الوعي يدخل في جدل مع ذاته إلى حدّ الحيرة، ويحسب أنّ ما اهتدى إليه هو قناعة مبنية على التّأمل بينما هو شكل من الحرب الناعمة على الوعي ليس برسم كي الوعي بل بما اصطلحنا عليه احتواء الوعي. وأمّا المغالطة فهي أداة من أدوات احتواء الوعي ضمن مسار منطقي ينتهي بتحريف الوعي. وقد تنجح عملية احتواء الوعي إلى درجة قد تؤدّي إلى أسوأ أنواع العدمية.
سأتناول هنا مغالطة أسميها أيضا تيسيرا للمعنى بالتبشيع التراكمي، وهو شكل له نظائر في ممارسات العنف الرّمزي بين الخصوم والغاية منه إخفاء أي مكرمة للشّخص وإبداء الجوانب الأكثر سلبية. وهي أساليب غريزية وبدائية لكنها تمارس اليوم بتقنيات متطورة في وسائل الإعلام لغايات أبعد من الشكل البدائي الذي مورست به.
جرى نقاش بين شيوخ الوهابية في معاركهم الطائفية حول ما سمّي عندهم بالموازنة والتجريح. وكان الاتجاه الغالب في نظرهم هو اتجاه التجريح أي أنّه ليس من المسموح به ذكر مكارم الشخص المجروح حتى لا يفتتن بمكارمه بل الاقتصار فقط على ما من شأنه أن ينفّر منه النّاس. وهم في الحقيقة يخشون من أن يستند المتلقّي على مكرمة واحدة لنقض الصورة التبشيعية لذلك ينسفون أمامه أي مرتكز للاستناد عليه ليصبح أمام تواطؤ صور تبشيعية موحّدة المضمون. وطبعا لإنجاح المهمة لابدّ من اعتماد أساليب بتر الحقائق من سياقاتها وإعادة تركيب الصور خارج شروطها الواقعية فضلا عن اختلاق الصور. وكان هذا النهج هو نهج ابن تيمية في مقارعاته لخصومه حتّى أنّه لم يحل عليهم في اقتباساته من آثارهم.
تراكم فعل التبشيع الذي يمارس في وسائل الإعلام يوقفك عند حدّ يصبح المتلقّي غير قابل لأن يسمع أي مكرمة تذكر في حقّ من تمّ تجريحهم في وسائل الإعلام الموّجهة ظاهرا أو خفيا. لأنّ صانع الصورة النمطية التبشيعية المتراكمة يحدث في لاوعي المتلقي قناعة من نوع آخر تظهر في عدم تقبله لسماع أي شيء مخالف للصورة النمطية عن الشخص. قبل أيّام كان إعلامي يناقشني حول بعض الشخصيات، وهو غير ملتفت إلى أنّه ينطق بالمعلومات المتاحة في وسائل الإعلام التي لم يكن لها منافس أنذاك. وحين برّرت تهمتين اتهمت بهما تلك الشخصية في حملة التشويه، قفز محاوري ليقول: أنت الآن تجعل منه ملاكا، معصوما، لا يخطئ ووو كان محاوري أقل تطرّفا لكنه كان ضحية تراكم الفعل التبشيعي والتنميطي مما جعلني أكتشف السور المنيع الذي بناه حول وعيه لأنّه لا يريد أن يفرّط في صورة نمطية مزمنة آنس بها عقله حدّ القبول بها والاستسلام. وحينئذ قلت له: انت الآن نطّيت فوق مجموعة من المراحل لتنقلنا إلى حكم كلّي. نحن حتى الآن نقاشنا في قضايا وحالات جزئية وليس في أحكام كلّية. وهنا عرفت أنّ محاوري أمام نقضي للمعلومات الخاطئة الجزئية هرب إلى مغالطة الكلّي. قلت له أنت لم تتحمل أن أنقض تهمتين أو ثلاثة حول شخص ما، وتعتبر أن تكذيب تلك الدعايات كافيا لتجعل منه ملاكا. هذا في حين أنّ الشخص المقاوم إن هو جسّد قيمه واستمات فيها بإيمان واعتقاد فهو ليس فقط ملاكا بل من البشر من يتفوقون على الملائكة. أنا حتى الآن لم أنقض سوى تهمتين، فهل تصور شخص ما من دون هاتين التهمتين يرقى به إلى الملائكية والعصمة؟ ما هو تعريفك للملاك وما هو تعريفك للعصمة؟
أحيانا تكون في إطار الحجاج تعمل بأساليب العلاج النفسي، أو العلاج النفسي بالفكر. لأنّ مرضى الإعلام التضليلي يخضعون لتقنيات دقيقة تستعمل آليات الوعي واللاوعي في الإقناع. إنّ الإعلام إذا حاول الاستناد إلى تهمة واحدة ضد من يسعى إلى تنميطهم يمكن أن يفشل في تثبيت الصورة فيعمد على مراكمة التبشيع، لأن المتلقي المشبع بهذه الصور التبشيعية المتراكمة يعزّ عليه أن يتخلّى عنها كلّها فيصبح في نظره من غير المنطقي أن تقوم بفعل الكلام وحده بنسف كل هذه التهم، فإن قبل منك نسف واحدة فلن يقبل منك نسف باقي الصور لأنه يعتبرها شكلا من الاعتداء على ممتلكاته الخاصة، وكأنّك تريد أن تنهي النقاش ولم يبق معه شيء من تلك الممتلكات، وهي طريقة يستعملها الإعلام التضليلي المحترف استنادا إلى عقدة الثباتية والطّفالة، بل أحيانا يعتبر تصحيح الصورة إهانة لوعيه. ويكون لسان حاله: هل يا ترى كلّ هذه التهم والحقائق غير صحيحة، عجيب؟ وهنا تصبح الحقيقة في عناء لأنها مطالبة بنسف صور تضليلية أصبحت هي الأصل فيما يصبح التحقيق والتحقق عارضا ثانويا ومحاولة لتغيير واقع هو أصلا واقع افتراضي مفتعل استند إلى تقنيات احتواء الوعي ليصبح واقعا راسخ الجذور. طبّقت مغالطة مراكمة التبشيع ضدّ قادة وعلماء وشخصيات عامة أخرى. هناك مستند منطقي لنسف مغالطة مراكمة التبشيع، هو أنّه في الواقع لا يمكن أن يوجد كائن بشع مطلقا كما تصوره وسائل الإعلام التضليلية، فلنفتّش ونحقق في ما يحجبه الإعلام من مكارم الشخصيات الخاضعة لمغالطة التنميط لنكتشف إلى أي حدّ هي بليدة المغالطة إيّاها.
8. مغالطة الحصر العقلي المغشوش
لا أحتاج إلى التذكير بأنّ العلاقة بين المنطق والإعلام هي من المتانة بمكان بحيث يصبح من الخطأ اعتبار أنّ الصناعة المنطقية أجنبية عن هذا الاختصاص. لنتذكّر أيضا أنّ المنطق معني بموضوع الإعلام بوصف هذا الأخير في أصل نشأته الوظيفية هو رسالة تواصلية. ووحده المنطق قادر على التمييز بين مستويات وطبقات التواصل باعتبار أنّ القسم الأكبر من مسببات أزمة التواصل هو المغالطة. وفي الإعلام يتم تكريس الأزمات بتقنيات محترفة من التغليط، بل حتى مفهوم المهنية خضع لهذا النوع من المغالطة بحيث يقصد منها توريّا (بالتاء= المقصود الحديث بلفظ يحمل معنى آخر تقصده ولا يقصده المتلقي) تقنية خداع المتلقّي من دون إحساسه بأنك تغالطه. القيمة الجديدة لهذا النوع من الأخلاق المهنية (professional ethics) هو أن لا يشعر المتلقّي بأنّك تخدعه، أي أن المهنية لا تمنع من الخداع حين يكون بتقنيات ومهارات عالية، بل يصبح الخداع لا أخلاقيا حين لا يكون تقنيّا.
وهناك مغالطة أخرى تستند إليها الوسائط الوظيفية في احتواء الوعي هو ما يمكن التعبير عنه بمغالطة الحصر العقلي المغشوش. وقيد المغشوشية هنا ناظر في الانحراف الذي يصيب هذا المفهوم باعتباره مفهوما منطقيّا. ومعلوم أنّ المغالطة تعتمد صورة الصدق ومنطقه بينما هي في حقيقتها تخفي بناءها الهشّ وخداعها على مستوى المقدّمات المنطقية. فالمنطق في نظري ليس دائما عاصما للفكر من الخطأ بل هو أيضا مجال للاستغلال والخداع ولا يكاد يفطن لهذا النوع من الاستغلال إلاّ من تفنّن في هذه الصناعة وأحزر علما بكل أشكال المغالطة باعتبارها هي الشكل الأخطر في استغلال المنطق. ماذا يا ترى أقصد بمغالطة الحصر العقلي المغشوش؟
الحصر في المنطق إمّا استقرائي يقوم على تتبّع الحالات والعينات الكثيرة التي يحصل معها اليقين القائم على الإطمئنان أو حصرا عقليّا ثنائيا بين النّفي والإثبات، ناهيك عن صور أخرى للحصر يحدّدها المخاطِب في عدد محدّد حسب ما يقتضيه تعداد الأقسام والعيّنات أو النّقاط المناسبة كما يراها وهو حصر جعلي يبرره المخاطِب ويحصل في العادة حوله تسامح لأنّه في أسوأ الحالات لا يستوفي شروط كمال النظر كما هو شأن تحديد محاور النقاش في قضية ما. وكما لا يخفى فإنّ المغالطة تنطلق في العادة من مقدّمات خاطئة وصولا إلى استنتاجات خاطئة، لكن في الغالب فإنّ خطأ المقدّمات لا يظهر لغير الخبير بتتبّع وتحقيق المقدّمات الصحيحة للاستدلال الصحيح، بل إذا كانت المغالطة تحضر في التخاطب غالبا بصورة عفوية قد لا يلقي المخاطِب لها بالا، ويكون المخاطِب كالمخاطَب كلاهما ضحيّة فساد المقدّمات وبالتالي فساد القياس الذي تقوم عليه المغالطة ففي مجال السياسة الإعلامية الموجّهة هناك وعي بخطوات الاستدلال باعتبار أنّ الإعلام يباشر مهمّته الحجاجية وفق مقدّمات فاسدة قد يلعب فيها الخداع البصري دورا أساسيا، حيث تكون المقدمة التي تستند إلى تقنية الخداع البصري هي نفسها مقدّمة فاسدة تنتهي باستنتاج غير صحيح.
فالخداع في الحجاج الميديولوجي يستعمل مقدّمات تركيبية من القول والسمع والصورة، ويكفي أن تكون واحدة من هذه المستويات مشوبة بالخداع لتفسد البوصة برمّتها لأنّها تنقل الفكرة في تواطؤ الصوت والصورة في آن معا. صورة من هذه المغالطة تكمن في أن نحرّف صورة الحصر نفسها من حصر استقرائي إلى حصر عقلي، وذلك بأنّ نكون أمام حالات متعددة لكن تعمل السياسة الإعلامية من خلال لعبة الاختزال وهي في حدّ ذاتها مغالطة تؤازر مغالطة الحصر المغشوش، بل إنّ مغالطة الاختزال التي سنتحدّث عنها هي جوهر مغالطة الحصر المغشوش، تنتهي بتحويل صورة الحصرين نحو بعضهما بحسب سياقات ولعبة الإقناع، أي أنّه أحيانا يقتضي الأمر أن نختزل الحالات في حالتي نفي وإثبات وتارة نلجأ إلى مغالطة اختلاق الحالات المغشوشة وهو مقابل الاختزال لنجعل من الحصر العقلي حصرا استقرائيا مغشوشا. وفي المثال الأوّل -مثال مغالطة الاختزال- يفرض الوسيط الإعلامي على المحلل السياسي أن يجيب عن قضية تتطلّب تعداد حالات الحصر الاستقرائي بنعم أم لا، والمبرّر دائما هو أمران صورتهما:
- نحن لا نريد الخروج عن الموضوع، أجب: نعم أم لا
- نحن مضغوطون بالوقت، أجب: نعم أم لا
تدخل سلطة الزّمن في إيقاف تعداد الحالات ويجد المحلل نفسه أمام حصار حقيقي لا يمكن الخروج منه إلاّ بالاستسلام لمغالطة الاختزال وتحويل الحصر الاستقرائي إلى حصر عقلي.
وفي المثال الثّاني -مثال مغالطة توليد الحالات المغشوشة- يمارس الوسيط الإعلامي على المحلّل السياسي مغالطة رجل القشّ، بحيث يمارس شكلا من الهجوم على طريقته الحصرية باستعمال تهما ضدّ المحلل السياسي مثل: اتهامه بالاختزال والنزعة المتطرّفة ومحدودية الأفق والإرهاب الفكري والمبرر هو أمران:
- أنت تفرض رأيا محدودا على قضية لها أكثر من وجه ورأي، نحن ضدّ دكتاتورية الخطاب
- دعنا نستمع إلى آراء أخرى، نحن نعيش عصر الديمقراطية وعلى النّقاش أن يستمر
في العادة يلجأ الوسيط الإعلامي إلى اعتماد آراء فاقدة للمتانة المنطقية وربما استعان بآراء من الجمهور اعتمادا على الميكرو-طروطوار، أي اختلاط العلم بالجهل لتمييع الحقيقة وكسر سطوة المتانة المنطقية للاستدلال.
في الحصر العقلي يجد الوسيط الإعلامي مراده حينما يحبك روبورتاجا أو يخطط إلى رسالة إعلامية ما. مغالطة الاختزال هنا تقوم على حصر القضية في عيّنتين يوحي بهما برنامج الاتجاه المعاكس. هذا البرنامج يعكس استراتيجيا ميديولوجية تفرض على المتلقّي صورة لحجاج ثنائي يوحي تحت ضغط الصراع الصوتي والحركات الممسرحة إلى الإيحاء بأنّنا أمام رأيين وبالتالي بين حالة نفي وإثبات، بينما يغيب الرأي الثالث أو الحالات الأخرى. في الغالب ينتهي الحصر العقلي بنتيجة هي بخلاف الاستقرائي، لكن حينما يتحوّل الحصر الاستقرائي إلى عقلي بإسناد من مغالطة الاختزال يصبح مثل حكم الحصر الاستقرائي خاوي الوفاض.
لمغالطة الحصر العقلي المغشوش صور كثيرة ومستويات متعدّدة، وعلى سبيل المثال يتمّ محاصرة المتلقّي في نموذجين أحدهما سيّئ والآخر أسوأ. وبالفعل تكون الوضعية هي وضعية نفي أم إثبات، أي ديكتاتورية الاختيار بينهما على نحو حصري ووجودي، مثلا يفرض الإعلام على المتلقي أن يختار بين: الإخوان أو القاعدة.. بين داعش أو النّصرة..بين القرضاوي أو العرعور.. بين الزرقاوي أو عزمي بشارة.. بينما يظهر في الإعلام بوصفه حصرا عقليّا لكنه في الحقيقة ليس كذلك، لأنّ الحقيقة في الواقع لها طريق ثالث وحلول سياسية متنوعة واختيارات شتّى بل نحن هنا في الأصل أمام خداع يستند إلى الإلهاء البصري إلى حدّ القبول بفكرة أنّه ليس في الإمكان أبدع مما كان، بينما الحقيقة أنّ كليهما (السيّئ والأسوأ) هما من إنتاج الإعلام نفسه، ونجوميتهما مصطنعة، وكلاهما ينتميان لذات الأنظومة الجيوستراتيجية.. وهي من التقنيات التي تستعمل حتى في الماركوتين بناء على سياسات احتكارية تفرض على المستهلك أن يختار بين أمرين أحلاهما مرّ.. تنقلب صورة المغالطة ويصبح الإعلام المغالط بصدد تبرير فكرة أنّ الأمر لا يمكن أن يحصر بين نفي وإثبات أو بين أمرين وجوديين، وذلك نضرب له مثالا فيما جرى خلال سنوات من الحرب الميديولوجية الطاحنة بين محور الممانعة ومحور التّبعية.
المحور الأخير اهتدى إلى تصوير مغشوش لموقف الممانعة معتبرين إياها تفرض خيارا بين الإستبداد والقضية الفلسطينية.. ثم جاء الجواب على أنّه ليس من الضروري أن نفرّط في الديمقراطية من أجل أن نحرر فلسطين، لماذا لا نكرّس الديمقراطية أوّلا ثم نحرّر فلسطين.. وطبعا كان هذا ضرب من الحجاج نبت في أروقة الرّجعية التي لا تملك دساتير تتبع ولا برلمانات تسمح فيها للنّقاش وسنّ القوانين ولا صناديق اقتراع.. وطبعا هناك الكثير من صور التبرير التي تتيحها المديولوجيا، لكن هذه المغالطة تخفي الكثير من العوامل التي تحيلنا في نهاية المطاف إلى مفارقة كذّاب كريت: أي أنّ تصديق أمر ما يستند إلى تكذيبه والعكس، إذا صدق كذب وإذا كذب صدق.
هنا تُحجب الوجوه الأخرى للحقيقة، حيث أنّ قضية الديمقراطية لها أسس في الاقتصاد السياسي وهي مرهونة لمصير السيادة والتحكم في مجال السياسات الإقليمية والدولية: وضع الدولة الوطنية داخل المجتمع الدولي، قضية الاختلال، دور الإمبريالية في مقايضة الديمقراطية بالاقتصاد، وقضايا كثيرة. وفي نهاية المطاف وجدنا أنّ المافحين عن هذه المغالطة خضعوا لمساومات واشتراطات فقدوا معها كلّ بكارتهم السياسية والمبدئية والاستراتيجية.. إنّها المغالطة التي جعلت الحراكات العربية تنتهي إلى خراب أعاد المنطقة إلى عهد ما قبل الدّولة في حين ازدهر التّطرف وانهدم المعمار القيمي وهيمنة الهشاشة، وكلّ هذا لأنهم قبلوا يوما بمغالطة الاختزال ونقيضها، وكانوا ضحايا لسياسات إعلامية تجيد فنّ الاستحمار..
9. مغالطة المصدر أو المرجع
نُذكّر تباعا بأنّ المغالطة في جوهرها هي صور متجلّية لحقيقة واحدة ألا وهي فساد تدبير العلاقة بين مقدّمات الاستدلال ونتائجه، أو لنقل هو خلّل يعيه المخاطب أو لا يعيه في بنية الاستدلال قوامه قياس فاسد واستنتاج خاطئ.. وعليه نؤكّد أيضا على أنّ المغالطة من حيث هي حقيقة واحدة ذات تجلّيات متعددة قد تظهر ليس كمغالطة واحدة بل صور منها هو ما يعتبره البعض أنواعا لها. وسوف تصادفون هنا الكثير من الإحالات على بعض أنواعها ولكن في الحقيقة هناك تجليّات لصور المغالطة يسند كل وجه منها الوجه الآخر لأنّ المغالطة في نهاية المطاف هي ملّة واحدة. وأذكر أيضا بأنّ إحصائي لوجوه المغالطة لا ينتمي إلى أي حصر استقرائي لأنّني مقتنع بأنّ المغالطة حقيقة واحدة بوجوه متعدّدة لا حصر لها، ومن هنا أتحدّث عن أنواعها لكن هو تعبير متسامح، لأنّ المعنى هنا هو وجوهها ليس إلاّ. كما أنّني قد أتوافق مع بعض ما اصطلح عليه المناطقة من أنواعها ولكن قد أتحدث عنها بشكل مختلف وتخريج متنوّع ورصد لحالات جديدة ناشئة من الملاحظة والتجربة.
وهنا سأتناول باختصار وجه آخر للمغالطة في السياسة الإعلامية المتخصّصة في التضليل كما لاحظنا في إعلام الإمبريالية وحلفائها الرجعيين. هذه المرّة يتعلّق الأمر بما يمكن أن نسميه بمغالطة المرجع. وهي مغالطة لها صور متعدّدة أيضا، وتستند إلى وجوه أخرى من المغالطة كمغالطة السلطة.
تندمج صورة مغالطة المرجع مع مغالطة السلطة في التخاطب في موارد الحجاج، فيلجأ المغالط بوعي أو بغير وعي إلى التذكير باستناده إلى مراجع ومصادر خاصّة ودقيقة، مما يضطر الخصم أن يتراجع في موارد الحجاج. أمّا وسائل الإعلام فهي لا تكتفي بالبحث عن مصادر المعلومة من مظانها الحقيقية بل تلجأ إلى إنتاج وقائع جديدة من وحي الصورة التي تعيد إنتاجها تقنيا، بل أبعد من ذلك فهي تنتج مصادرها الخاصة. عملية إنتاج مصادر المعلومة وتمكينهم من خلال لعبة إنتاج النجوم لغايات معيّنة هو نفسه يمنح فرصة لهؤلاء النجوم من أن يتحوّلوا إلى خبراء ومصادر للمعلومة والتحليل بناء على معطيات مغشوشة. تقوم مغالطة المراجع المغشوشة على لعبة صناعة الخبراء في وسائل إعلام وإنتاج قبيلة وشلل محدّدة ذات مواصفات تمليها السياسات والمصالح.
من صور مغالطة المرجع أو المصدر هو اعتماد سلطة التكرار وتدوير المعلومات وإكسابها شهرة توحي بالتّواتر بينما مصدرها واحد. تدور المعلومة التي سبق وسميتها المعلومة- النفاية، وتماما كما هو فعل تدوير زبالة - العبارة لزميل من قلب الصناعة الإعلامية - وتظل في غياب تحقيق منافس هي المعلومة المرجعية التي تنهض عليها أشكال التحليل السياسي المغشوش. تسقط المعلومة يتيمة بلا أب في مشهد غافل، غير أنّ فعل التكرار ينتهي بها إلى احتلال مقام المعلومة - المرجعية. مع وجود جيش من الإعلاميين الذين يقعون بدورهم في فخ هذا التدوير المغالط للمعلومة يساهمون من حيث لا يدرون في تكريسها على أنّها حقيقة. وفي الغالب يحشر التحليل السياسي المناهض لهذه المغالطة في زاوية الدّفاع اللاّنهائي ومن دون جدوى.
أمّا الإعلاميون ضحايا المغالطة إيّاها فهم يبررون أنّ الأمر مادام مطروحا في المشهد على هذا النحو فلا بدّ من إثارته ومناقشته، فالإعلامي هنا يهتم بالمتداول ولا يهتم بالتحقيق، أمّا صانع المغالطة فقد يختفي من المشهد وربما عاد ووثّق أكذوبته بأثر رجعي من خلال فعل التداول المغشوش. في مثل هذه الحالات يكتفي صاحب المغالطة بكل الإشاعات والمعلومات ويكون همّ الصحفي لا سيما الفاشل أن يحشّد من هذا اللّون من معلومات-زبالة، ويمنحها شيئا من بوازير الإنشاء لحجب يتم المعلومة بمزيد من الإثارة. أكثر المعلومات التي يتم تداولها في الصحافة اليوم وتناقلها هي ذات مصدر مجهول أو أحمق أو مغرض أو بليد ولكنها تكتسب قوتها من سلطة التداول بفضل وسائل إعلام متحكّم فيها ولا تسمح حتى بتدارك الخطأ وإحباط المغالطة. في بيئة تفسح المجال لتيّار من المعلومات التي تخدم اتجاهات معيّنة والمنع الممنهج لاتجاه يسعى لبيان الحقيقة ستكون المعركة بين الحقيقة والزّيف غير متكافئة. هنا تكون الوسائط في خدمة الزّيف.
تعمل الوسائط على النّفخ في عدد من المحللين الذين يعتلون منابرها ثم سرعان ما يفوزون بلقب الخبير ليصبحوا بعد ذلك مصادر إخبار وتحليل. ويكثر لدى هؤلاء ادعاءات عادة ما تنطلي على الجمهور بأنهم ينطلقون من معطيات دقيقة وموصولين بمصادر خاصة. وبهذه المزاعم تستمر مسرحية خبراء أشبه بنصّابين يخدعون الرأي العام ويضللونه وفق مغالطة المصدر أو المرجع.
الأمثلة هنا لا تعد ولا تحصى، وتتكرر في كلّ الساحات. وبما أنّ المتلقّي لا يميّز بين مصادر موثوقة بمعايير الجودة العلمية وبين مصادر الرّصيف والمجالس الغوغائية التي تنتج فيها الأكاذيب أو المعلومات المشبوهة التي تضخها جهات معيّنة لها خلفية صراعية، أي ما أسميه بالصحفي-المرتزق أو الصحفي-المافيوزي الذي يساهم في فوضى المعلومات وخرق أخلاقيات المهنة، حيث في مثل هذه الحالة ليس بالمستطاع أن يوجد من يوقف هذا النزيف سوى الصحفي المناضل والمهني الذي وحده يملك أساليب دحض المغالطة بالوسائل المديولوجية المتاحة. وكما أنّ وسائل الإعلام تصنع مصادرها من خلال صناعة قادة وخبراء مغشوشين وتمكينهم من وسائل الإعلام وخلع الألقاب في محاولة لتمييع المشهد، فإنّ واحدة من أكبر وجوه الخداع هو إنشاء مراكز أبحاث ودراسات معنية بإعداد تقارير يقف خلفها تيارات معيّنة، هذه الأخيرة تقدم تقارير عن نفسها وفق الصورة التي تريدها لنفسها ثم تصدر هذه التقارير وتشيعها في مواقع مختلفة، وهكذا مع تراكم نشاطاتها تصبح هي نفسها مصادر يستند إليها الباحثون والمحللون باعتبارها وثائق وتقارير ومصادر معلومات. يأتي الصحفي والصحيفة وتحيل على التقارير إياها التي أنتجها زملاءهم في ذات المنظومة، وهكذا ينتج الإعلام مصادره التي سيعتمدها فيما بعد.
قد لا يبدو المحلل المغشوش معنيّا بالحقيقة، لأنّه اختار التموضع في الإلتباس، فمع تكاثر عدد الصحفيين وبروز حالة التنافس وغياب فرص للشغل تقوم المقاولة باستغلال الجيش الاحتياطي منهم، ومن هنا يصبح الصحفي هو نفسه ضحية هذا الوضع إن لم يكن هو نفسه من الانتهازيين الذين يستغلون المهنة في تحريف الواقع لصالح الجهات التي تستعملهم. في تجربتي مع هذا النوع من الصحفيين، لاحظّت أنّهم أشبه بمجموعات فاشية تهدف إلى الإطاحة بشخصيات لأهداف غامضة، بل أي تحليل تفسي لسيرتهم تجدهم في وضعية انتقام من المجتمع ومن المهنة وأحيانا يسعون للتآمر حتى على زملائهم في المهنة.
وبما أنّ الوعي بأهمية المصدر ازدادت مع تطور مهنة الإعلام فإنه بات هناك اهتمام كبير فتح المجال لبعض المتطفّلين لكي يلعبوا دور المصدر حيث يكفيهم أن يخلقوا أقاصيص وهمية وخيالية مع بعض الحقائق المتاحة، وهي ظاهرة تروج في ساحات عديدة، تظهر فيها عينات من أهل النصب والاحتيال في مجال المعلومة، وهكذا يوقع هؤلاء الكثير من ضحاياهم من داخل مهنة الإعلام في شباكهم..الهوس في جلب أقصى عدد ممكن من الأخبار يساهم في تراخي الواجب في التّحقق لا سيما في غياب الرقيب طالما لا يوجد قانون يستطيع أن يقضي على مغالطات الإعلام المضلّل إلاّ الإعلام نفسه بالطرق الإعلامية النضالية لحماية جودة المعلومة وتحصين رسالة الإعلام من الاستعمال والاستغلال.
تطورت وسائل الإعلام لكن في غياب قوانين صارمة لتنظيم المهنة والمحاسبة حيث واحدة من أكبر المغالطات التي يتهرب من خلالها الإعلامي التضليلي من مسؤولياته وغياب القسم الذي يضارع قسم أبيقراط في الطب، هي مغالطة السلطة الرّابعة، وهي أمّ المغالطات في الصناعة الإعلامية التضليلية اليوم، وهو ما سنفرد له كلاما خاصا فيما بعد..
في القادم: مغالطة الواقع المغشوش
اضف تعليق