ما موقف افلاطون من الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي؟ لو كان لدى افلاطون انترنيت فهل سيقبل الدعوة ليكون صديقا على الفيسبوك؟ وكم صديق سيكون لديه؟ هل سيسمح بالفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي في جمهوريته المثالية؟
في الجمهورية (كُتب حوالي 380 قبل الميلاد) يتحدث سقراط نيابة عن افلاطون، يتحاور مع اصدقائه حول ما هو مطلوب لتحقيق اكثر السياسات عدلا لتأسيس الدولة المثالية. سقراط وجماعته نظروا في طبيعة الروح (باعتبار ان الدولة المثالية هي انعكاس للفرد)، وماهية العدالة، وطبيعة الخير، وما هي المعرفة وكيف يمكن ادراك الحقيقة. بعد هذا، استمر سقراط واصدقائه بمناقشة الكيفية التي يجب ان تُدار بها الدولة من اجل تحقيق العدالة والانسجام السياسي. الجمهورية المثالية تتألف من ثلاث طبقات من المواطنين: المنتجون، والمحاربون، والحراس الفلاسفة او (الملوك الفلاسفة) الذين هم بمثابة الحكام.
سؤالنا الآن هو هل سيسمح افلاطون للمواطنين بالدخول الى وسائل التواصل الاجتماعي، وهل سيسمح للحكام فقط ام انه سيمنع ذلك عن كامل الجمهورية؟
نشير هنا الى ان افلاطون سيهاجم الفيسبوك وكل انواع التواصل الاجتماعي بالاعتماد على ثلاثة مرتكزات اساسية يمكن العثور عليها في كتاب الجمهورية.
هذه المرتكزات هي:
1- الفكرة الشائعة في وسائل التواصل الاجتماعي بأن اي رأي هو جيد بنفس المقدار كما في أي رأي آخر.
2- عدم معرفة هوية وملكية ومسؤولية المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي.
3- رؤية افلاطون حول الرقابة على المسموع والمطبوع في جمهوريته. سنناقش هذه المرتكزات الثلاثة تباعاً:
اولاً، النسبية:
في الجزء السادس من الجمهورية، يناقش سقراط وغلاكون سمات الحراس الذين يحكمون الدولة المثالية. بسبب تعليمهم الفلسفي، يتحتم على الحراس فهم طبيعة الحقيقة وادراك انها تأتي من الفضيلة او الخيرية. من خلال سقراط، يقترح افلاطون انه تماما مثلما الضوء المنبعث من الشمس يمكّننا من رؤية الاشياء المادية، كذلك الخيرية تمكّننا من رؤية الحقيقة (507b- 509c) لكن هذه المعرفة تأتي فقط من خلال المعرفة الفلسفية وهذا هو السبب في ضرورة ان يكون الحكام من الفلاسفة.
يعتقد افلاطون ان الحقيقة النهائية مؤلفة من مجموعة من كينونات مجردة مستقلة في وجودها ولا تتغير، يسميها الأشكال يكون عالمنا المادي فقط انعكاس غير تام لها. كذلك، اعتقد افلاطون ان هذه الحقيقة الكامنة في الاشكال هي مطلقة وخالدة ولاتتغير، والمعرفة بها تتطلب نوعا من اليقين عبر العقل الخالص الذي نتوقع وجوده فقط في الرياضيات والهندسة. اي معرفة اقل من ذلك تعود الى عالم الظهور او عالم الحواس، ولذا لا يمكن اعتبارها معرفة بالحقيقة النهائية وانما هي فقط رأي. وبما ان الفيسبوك هي تمثيل لعالم الظهور، فهي بهذا تكون ليست اكثر من محاولة لتقليد الحقيقة (التي هي عالم الأشكال)، الامر الذي يجعل الفيسبوك تبتعد مرتين عن الحقيقة (كونها تمثيل للتمثيل) ولهذا هي زائفة.
وبالرغم من ان رؤية افلاطون تبدو متطرفة، لكنه لا ينكر ضرورة الثقة بالحواس لأجل الحياة. غير ان حواسنا وحدها ليست كافية للمعرفة التامة، ونحن فعلا بحاجة لإستعمال الرياضيات والمنطق للحصول على تلك المعرفة. لو اخذنا مثالا تقليديا حول الشمس، هل الشمس تدور حول الارض؟ هي بالتأكيد تبدو كذلك عندما نراها تتحرك في السماء فوق حديقتنا مع امتداد ساعات النهار، لكن العلماء يقولون ان الارض هي التي تتحرك حول الشمس. لكي نتأكد من هذا لابد لنا من اللجوء الى الرياضيات. نفس الشيء، افلاطون يقول اننا يستحيل علينا الحصول على معرفة تامة بأي شيء بدون الاشارة الى الاشكال التي توجد في عالم آخر والتي يمكن معرفتها فقط عن طريق العقل. لذا فان الفلاسفة وحدهم متدربون وقادرون على استخدام العقل لإثبات ان الاشكال قادرة على تمييز الحقيقة النهائية بما فيها ماهية الخير.
الفيلسوف A.N.Whitehead قال مرة ان "الخصائص العامة الأكثر امناً للتقاليد الفلسفية الاوربية هي كونها تتألف من سلسلة من هوامش افلاطون") العملية والواقع ص 39، 1929) فهو كان يشير لحقيقة ان افكار افلاطون كانت مؤثرة من خلال المسيحية نزولا الى الافكار الفلسفية والسياسية الحالية.
من المؤسف ان بعض افكار افلاطون العظيمة عن الحقيقة وما يشكّل المعرفة اضمحلت كثيرا في السبعين سنة الاخيرة لمابعد الحداثة، والمعلومات يُنظر اليها الآن كسلسلة من السرد بدلا من سلسلة من الحقائق. نسبة كبيرة من الناس يحصلون على اخبارهم الجديدة من التواصل الاجتماعي دون اي فحص او مطابقة للأصل وهم سعداء بعمل كهذا. لذا فان افلاطون سيعارض حتما الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي الاخرى على اساس انها تعطي الكثير من المعلومات المضللة التي ستؤثر مباشرة على المواطنين كونها تعمل على إفسادهم.
ربما سيكون افلاطون مسرورا بإعلان الفيسبوك في 14 ابريل 2017 بانها وضعت مرشدا لمساعدة القرّاء في الحكم على ما اذا كانت المعلومات التي يقرأونها صحيحة ام مزيفة، وما اذا كانت عقيدة ام رأي، حقيقة ام أحكام قيمية.
ثانيا، عدم المسؤولية:
ثانيا، افلاطون سينتقد الفيسبوك بسبب سماحها بعدم معرفة ولا مسؤولية الكاتب.
في كتاب الجمهورية 359-a360d نجد قصة الشاب (غيغز) الراعي الذي وجد خاتما يجعله غير مرئي. هو يستعمله لقتل الملك واغراء الملكة. القصة توضح ما يحدث عندما يتصرف الناس بحرية دون معرفة احد بهم. يرى افلاطون اننا اذا اصبحنا غير مرئيين للآخرين فسنكون اكثر ميلا لإرتكاب الافعال السيئة. هو يشير ايضا ان الانسان الخير حقا سوف لن يحتاج للشكر والمديح على الافعال الخيرة. ولكن كم عدد مثل هؤلاء الناس الفضلاء؟ من المؤكد كما يذكر الكاتب Matthew parris ان الفيسبوك قد تعمل كقناع لإشاعة الكراهية، ذلك من الواضح ان الناس يجدون متنفسا لغضبهم في الميديا الاجتماعية دون اي تداعيات سلبية، فهم يعبّرون عن آرائهم عن الاخرين بطريقة لايستطيعون القيام بها وجها لوجه. هذا هو السبب الذي يدفع افلاطون لمنع الميديا الاجتماعية لانها تشجع الناس ليكونوا غير اخلاقيين، انها بمثابة اجازة للكراهية والتي تقود الى الفوضى واللاقانون.
ثالثا، ضرورة الرقابة
ثالثا، هناك قضية الرقابة. الفيسبوك لا تفرض رقابة على خطابات الكراهية والصور غير اللائقة حتى وان كان لديها فريق من الناس الذين يفحصون ويحذفون الرسائل التافهة.
افلاطون كان سيفرض الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي. في كتاب الجمهورية جزء 3 و10، هو يدعو لمنع انواع معينة من الكتابة والموسيقى والشعر لانها تتضمن امكانية الإفساد. الفن الدرامي مثلا يثير عواطف الناس مما يقود الى اللاعقلانية التي بدورها تشجع اللااخلاق. هناك ايضا مسألة تتعلق بالفن، فهو فقط يقلد عالم الظهور وبالتالي فهو مضلل وزائف وسوف يفسد المواطنين. يقول سقراط "اول شيء يجب فعله هو تأسيس رقابة على كتابة القصة"377c. من خلال سقراط، يعلن افلاطون بان جميع القصص مفسدة للناس لأنها بحكم طبيعتها تُكتب من قبل كتاب ليست لديهم معرفة بما يتحدثون عنه (حقيقة الاشكال) وهي في اسوأ الاحوال تتحدث كذبا. الاطفال يجب حمايتهم من الفن الرديء لانه يفسد الروح، الدولة باعتبارها مسؤولة عن التعليم يجب ان تسمح فقط بالفن غير المفسد.
هذا يعني فرض رقابة شديدة من جانب الحكام في جمهورية افلاطون. الآراء السياسية المعارضة لإفلاطون ستُحذف بسرعة وستُفحص بعناية جميع النقاشات المتعلقة بالفن وسيُنظر بجميع الفيديوات الرقيقة باعتبارها تلهي الناس بعيدا عن واجباتهم. بالطبع، الحكام الفضلاء ذاتهم سوف لن يُفسدوا بما يقرأون في الفيسبوك، وهم يحتاجون لمعرفة مشاكلها لكي يحموا الناس منها. الحكام يُسمح لهم بالاطلاع على الفنون ولكن فقط لكي يرشدوا الناس الأقل قدرة على التحكم بالعواطف الشديدة التي يثيرها الفن.
كيف سيستخدم افلاطون الفيسبوك
افلاطون لا يمانع في "لي الحقيقة" اذا كان ذلك يتناسب مع الهدف، فهو يبرر الكذب حينما يكون لمصلحة المواطنين. اذا كان افلاطون يسعى لترسيخ الاستقامة والعدالة والصدق والمعرفة قبل اي شيء اخر في الدولة او على مستوى الفرد، فهو ايضا لايكره احيانا خداع المواطنين. الحكام المسؤولون عن المستوى الادنى للأخلاق يجب ان يكونوا ذاتهم راغبين بالكذب حينما تتطلب مصلحة غالبية المواطنين ذلك. افلاطون اجاز الكذب مرتين: مرة في ما سمي (بالكذب النبيل)، وفيه يتاح للمواطنين ممارسة مختلف الاعمال. فبالرغم من ان افلاطون اعتقد ان الناس يولدون متساوين لكنه اعتقد ايضا من الافضل القول للمواطنين انهم ولدوا ضمن طبقة معينة في المجتمع، وهذا يحدد العمل الذي يمارسونه والنساء التي يتزوجونها ومدى الحرية التي يتمتعون بها. بواسطة هذا الكذب سوف لن يُسأل المواطنون عن طريقتهم في الحياة وهو السؤال الذي قد يجعلهم تعساء، هذا سيضمن الفاعلية والانسجام في الدولة.
الحالة الثانية التي أجاز بها افلاطون الكذب هي في زواج الحراس عندما قيل لهم ان زواجهم تم وفقا للقرعة او اليانصيب، بينما في الحقيقة كانت القرعة مرتّبة سلفا بحيث افضل الحراس يتزوج من افضل النساء.
لذا فان افلاطون وحسبما تقدم قد يستعمل الفيسبوك في جمهوريته لأسباب معينة. الجهل بمن يكتب في الفيسبوك قد يساعد افلاطون جيدا في توزيع البروبوغندا حيث سيسمح للطبقة السفلى من المجتمع باستعمالها ومن ثم الدخول بشكل غير مرخص الى حسابات اعضاء تلك الطبقة والتجسس عليهم وتلقينهم البروبوغندا من اجل المصلحة العليا. من الواضح ان مفهوم افلاطون هو ان الحراس كحكام للدولة سيُسمح لهم باستخدام الانترنيت من اجل نشر المعلومات المزيفة اذا كانت تعزز المجتمع السلمي.
غير ان الفيسبوك لاتتوفر لديها النية لترسيخ الاخلاق وهي لا تسعى خصيصا لتعليم مستخدميها هذا الهدف، لذا نعتقد ولهذا السبب وحده ان افلاطون سوف لن يسمح بها.
اضف تعليق