يشكل علم النفس أهم منهجيات ووسائل دراسة وتحليل ظاهرة الارهاب واستنتاج الممكنات في العمل من أجل ايقافه او التصدي له، لاسيما وان الارهاب في سلوكه يقارب المرض العصابي في طريقة الهيمنة التي يمارسها على الفكر وطريقة التفكير لدى الانسان ذي النزعة الانفعالية والعصابية في تبنيه او خضوعه، بعبارة أدق الى مسلمات وبديهيات الفكر المتطرف والعقائد الارهابية التي تتشكل وفق نظام من المعرفة يمنحه التوريث والماضي نسقا مقدسا يقارب المطلق في قناعاته وفي وهم قداسته.
من هنا تبدو اهمية نظرية أنساق المعتقدات قي دراسة وتحليل التطرف والإرهاب، لجهة ان التطرف فكرا والارهاب سلوكا يفسر وفق نسق المعتقدات، وهنا يلتقي في التفسير الافراد والجماعات الصانعة للإرهاب، والافراد والجماعات الضحية للارهاب، فالمعتقدات تشكل العنصر الثأري خلف التطرف ونتاجه في الارهاب، فمن يصنع الارهاب يفسر سلوكه وفق مقتضيات عقيدته، وضحية الارهاب يفسر السلوك العدواني تجاهه بانه نتاج تلك العقيدة المغذية للارهاب.
لكن السؤال: لماذا نجد ان أصحاب هذه العقائد يختلفون في وجهات النظر تجاه التطرف والإرهاب، على الرغم من انتمائهم الى هذه العقيدة بنفس القناعات والالزامات؟
هنا تطرح نظرية انساق المعتقدات تفسيرها للاتجاهات المختلفة في تفسير العقيدة، وتخلص النظرية الى ان الجمود في تفسير العقيدة هو الذي يقود الى التعصب بإزاء الاشياء والاخر، لكنها تحدد علاقة الجمود بمفهومي تفتح الذهن وانغلاق الذهن.
وقد اعتمد روكيتش الذي وضع هذه النظرية على دراساته التجريبية في هذا المجال، ويفسر اختلاف الاشخاص في علاقتهم بمعتقداتهم استنادا الى افتراضه متصل ثنائي القطب بالعقائد، بمعنى ان اتصال الاشخاص بعقائدهم يتم من خلال ثنائية ذهنية عامة منشطرة بين ذهن منفتح وذهن منغلق.
لكن على خط هذا المتصل أو بين تلك الذهنيتين تنتشر تصورات او ذهنيات تتفاوت معرفيا وفي مواقعها في تلك المسافات الفاصلة، وهو ما يعبر عن التفسيرات والتأويلات المتعددة للنصوص الأولى للعقائد بين اتباع هذه العقائد، وبالقدر الذي لاتختص هذه النظرية بتفسير نوع معين او محدد من انساق المعتقدات وفق مضمونها، فإنها تبني تصورا حول كيفية بناء وتصور هذه العقيدة في الذهن، وبالتالي فان النظرية تمارس دورها في تحديد اشكال البناء للعقائد في التصورات الفردية ودورها في تشكيل التعصب، ولا تعنى بمضامين هذه العقائد، وهو مايؤكد دور الافراد في صياغة التفاعل او الايمان بهذه العقائد مما يحيلها أي العقائد الى مستوى ثانوي بالنسبة الى أولوية دور الافراد في الصياغة والتوجيه لهذه العقائد والتأثير المناط بها في السلوك الفردي الذي يتحول بفعل الترويج لصياغة متعينة في هذه العقيدة الى سلوك جمعي.
ولعل دور الافراد في صياغة العقائد التي يؤمنون بها هم والآخرون هو الذي يفسر هذه الاختلافات الهائلة التي تصل الى حد الانشقاق، بل الى حد العداء المتبادل بين اتباع او اصحاب العقيدة الواحدة نتيجة اختلاف الافراد في التفسير والتأويل، لكن هؤلاء الافراد يدخلون في جدلية ثلاثية الابعاد في صياغة مضامين هذه العقائد بالنسبة لهم أولا، وبالنسبة للآخرين الذي يشتركون معهم في هذه العقيدة ثانيا، وفي صياغة اشكالها بالنسبة للباحث والدارس ثالثا، وفي تطورات تلك الجدلية يظل الجدل الثقافي والمعرفي مستمرا بين المشاركين في ذات العقيدة والمختلفين في تأويلات تلك العقيدة.
ويظل الباحث والدارس الاكاديمي مستمرا في تناوله الاكاديمي في دراسة كيفية بناء وتكون تلك الاشكال في أنساق العقائد، لكن المثقف الواعي بمسؤوليته المعرفية يظل باحثا في كيفية بناء وتكوّن المضامين في هذه العقائد، وقدرة هذه المضامين على الدفع باتجاه الارهاب تحت سلطة التأويل التي يمارسها الافراد مما يفقد النص سلطته التي يدخل عنصر الايمان في بنائها، أي في بناء هذه السلطة لصالح سلطة التأويل التي يدخل عنصر المصلحة الشخصية والفئوية والظرفية التاريخية في بناء سلطة التأويل وهو ما يميزها عن سلطة النص الأول.
وفي تناوله أنساق العقائد في الذهنية العامة والفردية فان روكيتش يهتم بالأبعاد الثلاثة وهي المعرفة والايديولوجيا والانفعالية، وهي من وجهة نظرنا الابعاد المتعلقة بالنص والعقيدة في شكلها ومضمونها التي تتكون بالدور الذي يمارسه الافراد تجاه النص الأول، واذا كانت المعرفة تشكل صلب العقيدة باعتبارها أفكار أو نصوص أولية، فان الايديولوجيا تشكل صياغة ثانوية لهذه الافكار، وتعمل على توظيف النص باتجاه أهدافها وغاياتها، وحين تبرز معرقلات الفعل باتجاه هذه الاهداف والغايات يكون الانفعال هو الباعث على التشدد والتعصب، وهنا يبرز في الانفعال دور الافراد بشدّة في تكوين الصياغات الشكلية والتضمينية للعقائد.
لكن الانفعال أو قدرة الانفعال تمر من خلال السلطة على النص التي تغذيها الايديولوجيا وتجد منفذها في التعبير عن كيانها الفكري ومواقفها بإزاء الآخر والاشياء في الانفعال، وهذا الانفعال هو مفصل التطرف والتشدد في العقائد.
الايديولوجيا واغتصاب السلطة
تعمل الايديولوجيا على إزاحة سلطة النص لتحل الايديولوجيا في موقع النص، هذا النص يتم إخضاعه الى عملية تشريحية وليس تفسيرية يتم استئصال ما يخالف الايديولوجيا أو السلطة التي اغتصبتها من النص، ويتم ايضا تجميع عناصر متباينة من النص وفي سياقات مختلفة ضمن سياق سلطة أو ايديولوجيا الجماعة المتطرفة.
ولعل أول تلك الصياغات القصدية والتحريفية التي تمت في تاريخ الاسلام هو تحويل المعنى في الطاعة الى الله ورسوله وأولي الامر الى طاعة السلطة السياسية في الدولة الاسلامية باعتبارها تشغل موقع أولي الأمر، وهو التأويل الذي تمت صياغته لعوامل ظرفية وسياسية استباحت سلطة النص الاول لغرض سلطة أيديولوجيا الدولة التي لم تكتمل شرعيتها من وجهة نظر المجتمع المسلم في حينه.
وضمن تلك السياقات في استلاب سلطة النص قال متقدمو جماعات التطرف والتشدد في تاريخ الاسلام "أن السنة قاضية على القرآن"، ونجد صيغة الانفعال ظاهرة في هذا الحكم الذي قد يصل الى درجة الحكم الشرعي لدى البعض، فالانفعال عبارة عن عملية تأزيم وتوتر في القرار يجمح الى التصعيد، وهنا يبدو التصعيد واضحا في صعود السنة الى موقع أعلى من النص/القرآن، واذا أدركنا التطابق البنيوي والمستمر بين القرآن والسنّة اتضح أن ما قصدوا به السنّة هي السنّة الموضوعة أو المجتزأة من سياقاتها الدينية والتاريخية، لاسيما وأن السنّة الصحيحة لا تخرج عن السياقات العامة والخاصة للقرآن، فالتصعيد للسنّة يأتي وفق نسقهم التبريري اذا خالف القرآن السنّة فهنا العمل بالسنّة واضاعة الكتاب، أو إزاحة سلطة النص/القرآن. وهنا يتشكل السياج الدوغمائي المتكون في رفض الآخر الذي يعد خارجا على النص معرفيا اذا قدّم القول بالقرآن.
ومن هنا نستطيع ان نفسر ذلك التكفير المطلق الذي تمارسه حركات ودعوات التطرف والتشدد بإزاء المسلمين عامة، لان المنطلق العام لدى المسلمين هو تقديم القول بالقرآن، مما يعني لدى الفكر المتطرف تهديدا لسلطته التي تنبني قاعدتها على ازاحة سلطة النص، مما يحيل كل خارج على السلطة سياسيا الى خارج على النص دينيا، ويحيل كل عدو للسلطة السياسية الى كافر بالنص نتيجة، او بسبب كفره بالسلطة السياسية وليس الكفر الاصلي بالنص.
وهذا النوع من التكفير تضج به مصادر او أدبيات الفقه السياسي للدولة الناشئة في تاريخ الاسلام، لاسيما كتب الفرق والملل والديانات والنحل، والتي غالبا ما توصف بالرفض والضلال والزندقة وهو تكملة عنوان كتاب الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي تـ 973هـ، ثم الفصل في الملل والاهواء والنحل وهي مهمة وعنوان كتاب محمد بن عبد الكريم الشهرستاني تـ 548هـ، ثم الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية لمؤلفه عبد القاهر البغدادي تـ 429هـ، وهو ما يشدد على التفريق بين المسلمين بعد ان يفصل بينهم الشهرستاني وينزل عليهم صواعقه المحرقة ابن حجر الهيتمي، وغيرها من كتب الفرق ذات النهج الرسمي في ممالأة الدولة التي كتبت في كنفها هذه الكتب.
وهناك ملاحظة مهمة وهي ان هذه الكتب تطلق اسم الفرقة على ما عدا طريقتهم وفرقتهم، فهم أهل السنة والجماعة، وأهل السنة والاستقامة، واذا ذكرت فرقتهم فهي الفرقة الناجية، والفرقة المنصورة، وهو ما ادى على مر التاريخ الاسلامي الى تنشئة اجتماعية خطيرة على البغضاء والكراهية، ويؤكد المختصون في علم النفس بأن "التعصب يعد بمثابة معيار في ثقافة الشخص ويتم إكتسابه من خلال عملية التنشئة الاجتماعية"، وتشكل الأسرة والمدرسة والاصدقاء قنوات أساسية في صياغة الفرد وتنشئته الاجتماعية، وهي تدخل في سياقات خطاب اجتماعي عام يتكئ على المفاهيم السائدة في المجتمع ويتحول الى خطاب جماهيري يتسم بالتأييد في منحى عام من الأمية الثقافية بل وحتى الامية التقليدية – الكتابية، وهو ما يشترط افراغ الخطاب من نخبوية المفاهيم وتطور الافكار مما يتيح وسائل للهيمنة على الافراد دفعت بها تكنولوجيا الاعلام ووسائل التواصل الى توثيق هذه الهيمنة وتكريسها من خلال مفهوم البيعة الذي برز مفهوما سائدا في الاوساط الجماهيرية ذات الصبغة الدينية.
الذات المكرسة للايديولوحيا
ان مفهوم البيعة يأتي على النقيض من المفاهيم العصرية في الانتخاب وصناديق الاقتراع او مفهوم الديمقراطية - بالمناسبة مفهوم البيعة شرط في الفقه السياسي السني ولا قيمة دينية او فقهية له في الفقه السياسي الامامي بعد الايمان لدى الامامية بالنص على الامام، بينما نجد له تلك القيمة الدينية والفقهية في الفقهين الشيعيين الزيدي والاسماعيلي -وكانت البيعة التي يدخل فيها الفرد في تنظيمات متطرفة تعبر عن استساغة الهيمنة التي تبدأ معرفيا– عقائديا، ثم ايديولوجيا –ديماغوجيا، ثم تتكرس تعهدا- سياسيا لأمير التنظيم في المنشط والمكره، وفي المكره تتكرس فكرة الانتحار وقتل الآخرين، ويحدث هذا بعد ان تتفاعل أفكار الايديولوجيا في أوهام الفرد العصابي – الارهابي لتتحول الى انفعال شخصي نزق يتبنى لغة الالغاء للذات والآخر.
وتعتبر البيعة مثالا مهما في التعبير عن الذات المكرسة للايديولوجيا وبالقدر الذي تلغى الذات بالانتحار، وتعتبر البيعة تمهيدا لهذا الالغاء الوجودي فان البناء الاجتماعي للفرد الذي يعرض ذاته دائما للإلغاء يستند الى اساليب في التعليم تشكل مضامينه وليس وسائله منذ البداية توجهات الفرد نحو الغاء ذاته، وتطرح تلك المضامين في التعليم نماذج اجتماعية تشكل مفهوم أو مبدأ القدوة الصالحة التي تتكرس لدى الحركات والتنظيمات الارهابية في مفهوم السلف، وبطريقة المماثلة الحرفية أو المحاكاة بسعي هذا الفرد الى تقمص مواقف أو بالأحرى روح اشخاص هذا السلف الذي يدخل فيه بالنسبة لهذه الجماعات اشخاصا كان اسلامهم استسلاما للأمر الواقع بعد فتح مكة وظهور الاسلام في الجزيرة العربية، وملكوا في الاسلام ملكا عضوضا، وكان سلوك هذه الجماعات في السبي واستباحة الاعراض مؤخرا اقتداء بأولئك السلف.
وكذلك كان سلوك الافراد في هذه الجماعات بإزاء هذا السلف ووفق مقتضيات ايديولوجيا هذه الجماعات انما يتم وفق الصياغات المفتعلة والمصنوعة وهما حول صورة أشخاص السلف وواحدة من صور تلك الحقيقة المفتعلة هي حجية الصحابة – السلف والذي أنفسهم لم يكونوا يؤمنون بحجية ذواتهم الدينية والاجتماعية، انها اضافة آيديولوجية أزاحت أو هدفت الى ازاحة النص/الأصل/القرآن لصالح الايديولوجيا، لكن هذه المرة ليست السنّة الموضوعة التي تمارس الازاحة بواسطة منظري التطرف الاسلامي، وانما سنّة الصحابة في منحها تلك الحجية التي تجاوزت سلطة النص/القرآن وفرضت أولوية سنّة الصحابة على أحكام القرآن، وتكون بذلك مهدت تاريخيا الى ذلك النوع من القسوة والارهاب.
فقد أحرقت عناصر القاعدة الأسرى بغير الحق عملا بفتوى ابن تيمية في كتابه "الفتاوى الكبرى" في جواز احراق الأسير بحجية عمل الصحابة وما صنعه الخليفة ابي بكر عندما أحرق الفجاءة، وكان ابو بكر تمنى في موته لو تركه حيا، وماصنعه الصحابة في كثير من هذه المواقف انما كان لغرض تمرير قانون ومتطلبات ومصالح السلطة، لكن منظري التطرف الاوائل من فقهاء السلطة السياسية استثمروا واستغلوا ما صنع الصحابة او عمل الصحابة في تحويله الى حجة شرعية وقاعدة فقهية لاسيما في مواقف السياسة والسلطة، وفي انساق تلك المعرفة الفقهية ذات المنحى في السلطة والسياسة في تاريخ الاسلام يتجذر التعصب نفسيا والتطرف فكريا و الارهاب سلوكيا.
اضف تعليق