لم يكن يدور في بال قادة الجيش البريطاني الذي توجّه لاحتلال العراق، بأنهم سوف يواجهون مقاومة شرسة بل ثورة كبرى يديم أوراها رجال أفذاذ وقادة من طراز خاص، ففي يوم العشرين من شهر ربيع الثاني عام (1337) ه، وبعد أن تأكدت خطوات الاستعمار البريطاني الفعلية باحتلال الأرض العراقية، بادر سماحة السيد الإمام الشيخ محمّد تّقي الشيرازي، الى إطلاق فتواه المجلجلة والداعية الى مقارعة الاستعمار البريطاني الذي كان يتصور أن الأرض سوف تُفرَش له بالورود، لكن القادة العظام والشعب المؤمن ضيعا هذه الفرصة على المآرب الدنيئة للانكليز، فكانت الثورة العملاقة التي لقنت المحتلين درسا لن ينسوه على مر التاريخ.
وعندما نحاول الغوص في بطون التاريخ المنظور لنستكشف مساعي الشيخ محمد تقي الشيرازي، فإننا قبل ذلك نذهب الى استبصار شخصيته المؤمنة وطبيعة أفكاره وشدة بأسه ورباطة جأشه في الملمات، فمثل هذه الأحداث الجسام لكي تتم معالجتها والتصدي لها والتعامل معها بدقة، يحتاج الأمر الى رجال أفذاذ وقادة من طراز خاص، وبالفعل ما أن أقدم الجيش البريطاني على احتلال العراق وبانت أهدافه الاستعمارية دون تدليس أو غطاء، بادر الشيخ الشيرازي لكي يضع أحلام الانكليز ومخططاتهم في خبر كان، واندلعت الفتوى الخالدة التي دعت العراقيين الى مواجهة القوات البريطانية الغاشمة بأقصى ما يمكن من قوة وردع باستخدام كافة ما متاح من السلاح بما في ذلك أبسط العدد اليدوية الى السلاح الناري ودارت جولات قتالية يشهد لها التاريخ وكتب احداثها بحروف من نور.
لدرجة أن قادة الاحتلال البريطاني لم يكن يخطر في بالهم أن مخططاتهم المزيفة لن تنطلي على العراقيين، وأن هنالك قادة درسوا عقلية الانكليز جيدا وعرفوا مخططاتهم مسبقا، فاستعدوا لهم، وكانت الفتوى الخالدة للسيد الامام محمد تقي الشيرازي التي ألهبت مشاعر العراقيين من أقصاه الى أقصاه، واشتعلت حرب المواجهة واستدام أوارها، وتلقى الانكليز ضربات قاهرة على أيدي الأبطال العراقيين.
ومع كل المحاولات التي لجأ إليها البريطانيون، والألاعيب السياسية والدعوة الى اجراء انتخابات، لكن كل هذه الخطوات لم يكن لها أن تمر مرور الكرام على القادة المسلمين الأفذاذ وفي المقدمة منهم السيد محمد تقي الشيرازي حيث (بدأت الثورات الشيعية تنطلق من ارض الطف الواحدة تلو الأخرى حتى ثورة العشرين المعروفة بالثورة العراقية الكبرى بقيادة المرجع الديني الأعلى للطائفة الإمامية ورئيس الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي المتوفى سنة 1338 هجرية ضد الاحتلال الانكليزي، تلك الثورة التي سجلت علامة فارقة في تاريخ العراق الحديث وكانت إرهاصاً للثورات المتتالية على مر العقود التي تلتها، وخلقت حالة من المشاعر الدينية الوطنية الواعية والمتقدمة في رؤيتها للأمور ولسياسة المستعمر الذي يهدف إلى تكبيل العراق بمعاهدات تجعله تابعاً ذليلاً للتاج البريطاني وتقتل فيه كل روح للتطور والتقدم والازدهار، وقد كشفت هذه الثورة عن أن المستعمر مهما أوتي من قوة تتيح له احتلال الأرض وقتل الأبرياء فإنه لا يستطيع أن ينتزع منه الإحساس بالظلم والقابلية على الانتفاض لو توفرت له القيادة الحكيمة والواعية لدورها ولمسؤولياتها تلك القيادة التي تجسدت في هذه الثورة بقائدها الميرزا محمد تقي الشيرازي).
ومما كان يتميز به الإمام محمد تقي الشيرازي أنه كان ذا حنكة سياسية عالية، ولم يكتفِ بهذه الميزة التي جعلت منه قائدا من طراز خاص بشهادة مجايليه من القادة فضلا عن كتابات المؤرخين عن دوره الفذ في مقارعة الاحتلال البريطاني وإدامة أوار الثورة الشعبية ضده بداية من جنوب العراق صعودا الى وسطه لتشتعل أرض العراق كلها تحت أقدام الانكليز، ولكن لم الميرزا الشيرازي قدس سره مكتفيا بدوره القيادي السياسي، وإنما برع وأبداع في العلوم الدينية في الحوزات العلمية، فدرس على يديه خيرة علماء الشيعة الأفاضل، فكان الإمام محمد تقي المدرسي نابغة في قيادة الثوار وتأجيج هممهم، وعالما بارعا في نشر العلوم الفقهية في حوزات المدن المقدسة كلها.
وفي هذا الإطار ينقل عن السيد حسن الصدر الكاظمي قوله عن الإمام محمد تقي الشيرازي: عاشرته عشرين عاماً فما رأيت منه زلة ولا أنكرت عليه خلة وباحثته اثنتي عشرة سنة فما سمعت منه إلا الأنظار الدقيقة والأفكار العميقة والتنبيهات الرشيقة. ثم أضاف شيخنا الأستاذ تعليقه على قول السيد الصدر قائلاً.. وقد تتلمذت عليه وحضرت بحثه ثماني سنين في سامراء فتأكدت لدي صحة كلام سيدنا الصدر وبانت لي حقيقته وصدق الخبر وتحققنا ذلك من طريقي السمع والبصر ولم تشغله مرجعيته العظمى وأشغاله الكثيرة عن النظر في أمور الناس خاصهم وعامهم فقد كان ينتهز من وقته المستغرق بأشغاله فرصة يخلو فيها للتفكر في مصالح الناس وأمور العامة وحسبك من أعماله الجبارة موقفه الجليل في الثورة العراقية ومطالبته بالحقوق المهدورة والأمر بالدفاع وإصداره تلك الفتوى الخطيرة التي أقامت العراق وأقعدته لما كان لها من الوقع العظيم في النفوس وحقاً انه بذل كل ما بوسعه من حول وطول وضحى بكل غال ونفيس حتى أولاده وماله وقضية إلقاء القبض على ولده الميرزا محمد رضا معروفة فقد فدى استقلال العراق بنفسه وأولاده وكان أفتى قبلها بحرمة انتخاب غير المسلم وذلك لما حمل الانكليز الشعب العراقي على انتخاب معتمد الحكومة البريطانية السير برسي كوكس رئيساً للحكومة العراقية فإنه (أعلى الله مقامه) شعر بالحيلة المدبرة من المستعمر وعرف المغزى وانكشف له المخبأ فعند ذلك أصدر فتواه وأبدى رأيه الصائب فلم يكن من العراقيين إلا امتثال أمره فقد كانوا طوع إرادته لا يصدرون إلا عن رأيه وقد عقدت اجتماعاتهم في داره بكربلاء عدة مرات كان احدها -ولعله آخرها- اجتماعهم ليلة نصف شعبان عام وفاته (1338هجرية) فقد عرضوا عليه بتلك الجلسة نواياهم وتعهدوا له بان فيهم القوة الكاملة فلم يزد في أول مرة على قوله (إذا كانت هذه نواياكم وهذه تعهداتكم فالله في عونكم) ولما بدت أعمال الحكومة الشنيعة استنكرها استنكاراً عظيماً واجتمع إليه العلماء والزعماء والرؤساء يستفتونه في القيام ضد السلطة راغبين بأن تكون فتواه بداية الشروع في الثورة فعند ذلك أصدر فتواه.
وهكذا تجسدت الشخصية القيادية في أقوى صورها عندما بدأت المواجهة بين الثوار وبين المحتل البريطاني أمر لا مفر منه، فكان الأمر يحتاج الى القيادة الفذة القادرة على إدارة دفة المعركة بكل صفحاتها التي تدل في جميع المعطيات عدم وجود التوازن في القوة العسكرية بين المستعمر الانكليزي العائد للإمبراطورية العظمى وبين ثوار العراق الذي كانوا يفتقرون لأبسط أنواع السلاح، ولكنهم كانوا يحملون الإرادة الجبارة والتصميم العظيم، والميزة الأهم أن الفريق العراقي كان يتحلى بقيادة من طراز خاص يقف في المقدمة منها السيد محمّد تّقي الشيرازي الذي عرف عنها قوة الشكيمة والشخصية ورباطة الجأش والثبات في الملمات.
وهكذا يسجل التاريخ القريب صفحة من صفحات الخلود التي أنجزها الأبطال العراقيون بالإرادة الحرة والثبات المستدام والإيمان القاطع بعدالة القضية، فيما توافرت القيادة التي تميزت بعلميتها الدينية العميقة، وبرؤيتها السياسية الثاقبة التي جعلتها قادرة على استقراء الأمور واستكشاف النتائج قبل حدوثها، وهذه من ميزات القادة الأفذاذ، والسيد محمد تقي المدرسي تصدى لهذا الدور وبرع فيه واستطاع أن يحرك الجماهير العراقية من أقصاه الى أقصاه لكي يلقنوا الانكليز دروسا في البطولة والثبات على الموقف والقضية.
اضف تعليق