كشف التواصل الاجتماعي والثقافي في العالم العربي الذي وفرته مواقع التواصل الالكتروني عن تصورات العرب إزاء العالم وقضايا العرب وإزاء الآخر، وهي ما تشكل مضامين الخطاب الاجتماعي العربي المعاصر، وكشفت أيضا عن حدة الصراع الدائر في المنطقة كنتيجة طبيعية لأزمة التصورات العربية تجاه الذات والآخر المسلم وغير المسلم، وهي تكشف بنفس الوقت عن النقيض البنيوي الذي يكمن في داخل الخطاب الاجتماعي العربي، وهشاشة القائمين على تسويق هذا الخطاب من الناحية المعرفية والفكرية وشعبوية هذا الخطاب، ولذا فهو يشكل ارتدادا على هدف التواصل من خلال نقل تناقضاته الداخلية وابراز كل تناقضاته وتقاطعاته الايديولوجية والدينية عبر الطواعية التي تكفلها له مواقع التواصل الالكتروني في الاعلان عن تصوراته إزاء العالم والآخر المسلم وغير المسلم ومن ثم نقل معركته الكلامية والمذهبية والغائرة عميقا في احتقانات التاريخ الى ساحة المواجهة مع الذات والآخر.
وكان الخطاب الصادم في هذه المواجهة تهيمن على أفكاره وتحديداته شعبوية طاغية تَكلس من خلالها الخطاب الاجتماعي العربي ولم يعد قادرا على مواجهة أزماته ومشاكله السياسية والاقتصادية، وكانت الطائفية واحدة من أخطر أدواته في تبرير عجزه او فشله بإزاء تحديات داخلية وخارجية، سواء باللجوء الى استبدال التآمر الصهيوني بالتآمر الطائفي، أو إشغال الشعوب العربية المقهورة والمسلوبة الارادة الفكرية بأوهام العدو الطائفي.
ويلاحظ على هذا الخطاب العربي المعاصر الرسمي والشعبي غياب أو هامشية الحالة النخبوية والتي ظلت تشغل حيزا محدودا منذ خمسينات القرن العشرين، وهو عقد انهيار الدولة العربية لصالح الانظمة السياسية العسكرتارية والتي دشنت سلطاتها باللاشرعية في تقلدها مناصبها السياسية والإدارية، وقد طغت تلك اللاشرعية على مجمل الخطاب الاجتماعي العربي على أثر غياب الدستور في تنظيم مؤسسة السلطات/الدولة، وغياب القانون في تنظيم العلاقات/المواطنة، وصار توجيه الخطاب الاجتماعي في مجمله الرسمي وتفصيله الشعبي لا يستند الى قواعد دستورية أو مبررات قانونية.
وكان بديل هذا الخطاب في تبرير وشرعنة مقولاته هو قواعد الفقه السلفي وانفعالات الفكر القومي الذي لم يرق في البلاد العربية الى مستوى من النضج السياسي والتحليل العلمي بل هو يتجذر في الفكر السلفي بشكل مضمر أولا وهو مايكشف عن النقيض في بنيته الداخلية وتركيبته الأيديولوجية، ثم بشكل معلن في طوره الأخير وهو ما تبلور رسميا في المؤتمر الذي عقد في بيروت بتاريخ 10/12/1994 م وبرعاية مركز دراسات الوحدة العربية، وكان يضم تحت سقفه الجهات والاحزاب القومية والجهات والاحزاب السياسية الإسلامية، وخلالها انعقدت ست دورات للمؤتمر كلها في بيروت حتى العام 2006م ماعدا الدورة السادسة فإنها عقدت في الدوحة لتدخل مسارا جديدا مع المال القطري والطموح السياسي لدولة صغيرة، والعلاقة الغامضة التي ترتبط بها قطر بالقوى الدولية والإقليمية.
وقد كانت عدد من القيادات الاسلامية السياسية بارزة في تلك المؤتمرات واستلمت مسؤوليات كبيرة في هذه المؤتمرات لاسيما الاخواني المصري عصام العريان والمطلوب الى العدالة المصرية يوسف القرضاوي الذي تم تمكينه اخيرا وبواسطة هذه المؤتمرات ودعم قطر من قيادة الرأي العام السياسي السني، وقد تم خلال هذه المؤتمرات بحث الامكانات المشتركة بين الفكر القومي العلماني والفكر السلفي الديني ويبدو أن المؤتمرين قد توافقا على التحليق بجناحين يعول أحدهما على الآخر.
وفي افتتاحية المستقبل العربي التي ينشرها مركز دراسات الوحدة العربية في عددها الصادر بتاريخ أيلول/سبتمبر 2003 كتب خير الدين حسيب رئيس مركز دراسات الوحدة العربية مقالا بعنوان (التيارين القومي العربي والاسلامي جناحان لا يحلقان الا معا) وكان كلا التيارين القومي والاسلامي يدركان تماما تناقضاتهما الجدلية والبنيوية لكنهما عمدا الى (اسقاط التعارض والصدام والتنافر بين التيارين)، كما نص البيان الختامي للمؤتمر القومي الاسلامي في دورته الثانية في العام 1997 م، وهكذا تأسس الخطاب الاجتماعي العربي المعاصر استنادا الى هذا اللقاء القومي الاسلامي – السياسي ذي الصيغة السلفية وهو ما يفسر الى حد كبير التأييد الذي حظيت به الحركات السلفية في مواجهة التغيير السياسي الحاصل في العراق على أثر سقوط نظام البعث القومي.
وكان هذا التأييد يأخذ مستويين الاول على مستوى النخب القومية في البلاد العربية وتبني التحذيرات الرسمية من الهلال الشيعي، والمستوى الثاني والأكثر ضررا هو التأييد القومي–الشعبي الذي مهدّ للقناعة السلفية بوجوب الجهاد في العراق وحكاياتها الشعبوية الساذجة في الطعام مع النبي والحظوة بالحور العين بمجرد أن يقتل المجاهد المسلم في العراق عددا أكبر من الأبرياء، وكانت تلك الشعبوية الدينية تشكل أكثر إنحدارات الخطاب الاجتماعي العربي المعاصر خطورة.
لقد حظي تنظيم القاعدة وأعماله الارهابية في العراق وتحت ذريعة مواجهة الاحتلال بمزيد من التأييد في الثقافة السياسية العربية المعاصرة التي يتقاسم التأسيس لها كلا الخطابين القومي والسلفي اللذين عمدا الى اقصاء العراق عن العروبة والاسلام عبر تسميات وأفكار تفتقر الى المنطق العلمي والتحليلي والثقافي الجاد.
الفكر السلفي وجدلية التناقض والصراع
ان عبارات مثل المجوس والصفويين على مستوى التصنيف القومي للعراق، والرافضة الشيعة والمرتدين السنة على مستوى التصنيف السلفي، كان تعميمها يجري على مستوى الخطاب الاجتماعي العربي، وهو نتاج ذلك اللقاء القومي السلفي المريب الذي سعى الى استخراج الكراهية الدفينة في التراث العربي من خلال احيائه قوميا مفهوم الشعوبية، وسلفيا مفهوما الرفض والردة، وهكذا دمجت الرافضة بالشعوبية بعد ان كانت تشهد افتراقا تاريخيا في العصر العباسي الذي نشأت فيه تلك المفاهيم.
وفي اختلالات الفكر السلفي فقد تم قسرا إلحاق المرتدين السنة بالرافضة الشيعة في العراق في التصنيف الديني لفئات العراق الذي هو مهد العروبة والاسلام ومبعثهما التاريخي والحضاري، وقد كرس ذلك التصنيف ازدواجية وتناقضات الفكر السلفي الذي بدأ ومنذ هذه اللحظة باستيلائه على متبقيات الفكر القومي وانفراده بتمثيل الخطاب الاجتماعي العربي ومحاولاته بهذا الاتجاه في النفي للفكر القومي.
وعلى خلفية تلك الحقيقة التاريخية والتي كشفت عن هشاشة التحالف القائم بين القوميين والسلفيين انفجر الصراع في أعقاب الفشل الذي مني به ذلك التحالف في العراق، ونبذ حواضنه البيئية والاجتماعية له في واحدة من تجليات التناقض بين السلفية والحاضنة القومية لها في العراق، وعاد النفي المتبادل بين كلا الاتجاهين القومي والسلفي فاعلا في تفجيرات الوضع المأساوي والحرب الأهلية في دول شكلت الحاضنة التاريخية والايديولوجية للفكر القومي لاسيما مصر وليبيا وسوريا واليمن، وهي الدول التي كانت تضخ بالدعم اللوجستي والبشري المعلن وغير المعلن في العراق، وهو تعبير عن أزمة هذا الخطاب وأزمة العناصر المؤسسة له والمتجذرة في الفكر السلفي سواء في ادعائه القومي أو مدعاه الديني، الذي تكمن أزمته في تناقضه البنيوي.
فالفكر السلفي لا يكف عن انفجاراته الداخلية وانشطاراته التنظيمية ومن ثم العدائية المفرطة بين مجاميعه الجهادية بعد ان شكل مفهوم الردة واحدا من أبرز محركاته وآلياته الفكرية التي تشكل أو شكلت بنفس الوقت ارتدادا ذاتيا مستمرا، وهو ما عبرت عنه أزمة الصراع الخليجي الأخير. فالسعودية البيئة الحاضنة والمؤسسة ثقافيا للعقيدة السلفية الجهادية، وقطر البيئة الحاضنة والداعمة للتنظيمات السلفية الجهادية كان الصراع بينهما ينشأ وفق مقولة الارتداد الذاتي والنقيض الداخلي في الايديولوجيا المتطرفة.
لقد شكلت قطر خطرا مسبقا على دول خليجية بدعمها وتأييدها لجماعة الاخوان المسلمين واقامة عدد من القيادات لهذا التنظيم الدولي على أراضيها، وكان الدعم التركي لموقف قطر تعبيرا آخر عن تفكك العلاقة الداخلية في الرؤى السلفية والدينية في المنطقة وعلى الضد الكامل من متبنيات أو بالاحرى من مدعيات الخطاب الاجتماعي العربي ذي الصياغة الدينية والسلفية في الوحدة، سواء منها العربية او الإسلامية، وهي تعكس حقيقة تاريخية أن المجتمعات العربية والاسلامية عانت التشظي والتمزق العلائقي في ظل هذين الفكرين القومي -العربي والاسلامي الديني– السلفي، وينطلق الدعم التركي عن ذات الايديولوجبا السلفية الاخوانية، وكذلك دعم عددا من الاحزاب والتنظيمات المتفرعة عن الاخوان مثل حزب العدالة والبناء المشارك في الحكومة المغربية وحركة النهضة التونسية وحركة العمل الاسلامي الاردنية وحركة حماس الفلسطينية، ويؤشر هذا الدعم وسعته والانحياز الى جانب قطر حجم التناقض والصراع الدائر في المنظومة الاسلامية السياسية وبين كتلتيه التي تتقاسم الهيمنة على هذه المنظومة وهما جماعة الاخوان المسلمين والمذهب السلفي الوهابي وهو المذهب الرسمي للدولة السعودية.
وفي تركيبة ذلك التناقض البنيوي فان السعودية والامارات التي تقف على الضد من قطر والاخوان تقدم الدعم المالي والعسكري لحزب الاصلاح اليمني ذات التوجهات والايديولوجيا الاخوانية في حربه على جماعة انصار الله الحوثية وجماعة الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وتبدو هوية التناقض في الفكر الديني السلفي جلية اذا أدركنا المرجعية الاسلامية السياسية لجماعة أنصار الله والمرجعية القومية لجماعة الرئيس اليمني صالح والتي يدعي الفكر السلفي انتمائه وتحالفه في كلا المرجعيتين واللتين تشكلان قاعدتي التأسيس في الخطاب الاجتماعي العربي المعاصر.
اضف تعليق