جميع الحركات الثورية في العالم رفعت شعار الحرية ضمن اهدافها التغييرية (الانقلابية) للاطاحة بأنظمة الحكم الاستبدادية والظالمة، كون هذه القيمة تتصل جذرياً بفطرة الانسان وتكوينه، فلا أحد يرغب بالعبودية، وهي الحقيقة التي كشف عنها القرآن الكريم، وعدّها من اولى مهام النبي المُرسل لتصحيح مسار البشرية وبناء الحضارة الجديدة: {...ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}.
هذه هي الخطوة الاولى ليتعرف الانسان على أحد ابرز حقوقه في الحياة، ثم تأتي الخطوة الثانية والأهم؛ في كيفية الاستفادة من هذه الحرية حتى لا تنقلب نقمة عليه، كما هي الكثير من النعم الموهوبة في الحياة، فيحتاج الامر الى تحديد الرؤية الصحيحة والأطر الثابتة المؤدية الى تحقيق الانسان اهدافه في العيش الكريم والسعادة وهو في منتهى الحرية.
فقد وهب الاسلام للانسان الحرية وجعله ليس فقط كريماً وسعيداً في الحياة، وإنما ليكون سيّداً ونموذجاً يحتذى به في العالم، ولكن كيف ذلك؟
النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بين ذلك وبكل بساطة خلال عيادته لعمه أبي طالب، وبحضور كبار قريش، عندما أجابه على سؤاله عما يريد من هؤلاء، فأجاب: "يا عمّ، إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب وتدين لهم العجم، فقالوا: وما هي؟ قال: تقولوا لا إله إلا الله"، بمعنى استخدام الحرية للانتخاب الصحيح، وإلا فان جميع افراد المجتمع الجاهلي في مكة والجزيرة العربية كانوا يسجدون للاصنام بملء ارادتهم وبكامل حريتهم.
لماذا الحرية "مشكلة" في هذا الزمان؟
عندما يكون في الناس في مرحلة الثورة على الظلم والطغيان والاستبداد، تكون الحرية من أدوات التغيير بيد الثوار، ودواة لأقلام المثقفين والمفكرين، وما أن ينتقل الامر الى النظام السياسي الجديد حتى تبدأ التفسيرات لمفهوم الحرية، ومتى تكون؟ ولمن تكون؟ وما هي حدودها؟، وغيرها من الاسئلة التي يطلقها ثوار الأمس وحكام اليوم قبل غيرهم، الى درجة أن تدفع البعض في بعض البلاد لأن يغلق الباب تماماً وجعل الناس مستغنون عن حريتهم في الانتخاب الصحيح.
هذه المشكلة تظهر الى الوجود عندما تتقاطع مع حالتين نفسيتين في الانسان:
الاولى: نزعة التملك والسيطرة التي تعد أقوى النزعات ظهوراً على سلوك الانسان وتصرفاته، ومن ثمّ فهي أخطر ما يهدد حرية الآخرين، وحيث أن حرية الفرد تتحدد بحدود حريات الآخرين، فإن طغت الحرية الفردية وتجاوزت حدودها على حريات الآخرين، تحول المجتمع الى غابة.
ومن أجل ترويض هذه النزعة وجعلها تحت السيطرة، يساعدنا القرآن الكريم بأن يعطي الأولوية الى "الحرمات" قبل "الحريات"، لتكون عامل تقويم ووضعها في المسار الصحيح، فحرية الانسان الحقيقية حين يحترم الآخرون حقوقه وشخصيته وكرامته، وفي كتابه "القيادة السياسية في المجتمع الاسلامي"، لفت المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي الى "أن الاسلام لا يستخدم كلمة الحرية إلا قليلاً، وإنما يستخدم الجانب الآخر للحرية وهو عبارة الحرمة ومشتقاتها، فيقول: حريم الانسان، وحريم البيت، وحرم الله، فالحرية تتبدل في مفهوم الاسلام الى الحرمة، لان الحرمة هي التي تحافظ على الحرية، وحينما يحافظ الناس على حرمة البيت وحرمة الشارع والمدرسة والسوق، فمعنى ذلك أنهم يحافظون على حرية الافراد".
الثانية: طغيان الحالة الغرائزية المستدعية لإطلاق العنان للحريات الفردية، وبما أن طريقة استخدام الانسان لحريته يعكس مستواه الثقافي والتربوي، فإن كان الانسان الحُر فاقداً للضوابط التربوية والمعايير الاخلاقية، فان حريته اللامحدودة تكون كارثة عليه وعلى جميع افراد المجتمع، حتى وإن أعطي الحرية الخاصة بأن يفكر ويختار لنفسه ما يريد، فانه سيجني على نفسه بمزيد من التخلف والانحراف وتكريس لحالة الفساد في فكره وسلوكه.
هذا النوع من الحرية هو الذي يسلط عليه الضوء، معظم الحكام القادمين من خنادق النضال ضد الديكتاتورية والاستبداد والظلم، فهم يشترون السلطة والامتيازات السياسية والمالية بحرية موهومة توحي الى اصحابها بانهم أحرار فيما يفعلون ويفكرون في محيط المجتمع، او بشكل أفقي في نطاق القاعدة الجاهيرية، بعيداً عن قمة السلطة واصحابها، وكلما توسعت هذه الشريحة في المجتمع كانت أنفع لأهل السلطة، وأخطر على مستقبل الشعب والبلد بشكل عام، لانها ستكون طوع ارادة الحاكم او القائد حتى في ظل أجواء ديمقراطية فيكون "انتخابهم طاعة"، وليس انتخاباً عن وعي ذاتي وإرادة مستقلة.
الى اين المنزلق؟!
إن الاوضاع السياسية في عديد بلادنا، ومنها العراق، مصداق حقيقي للانتخاب الحر غير الواعي الذي خسر فيه المواطن وربح فيه السياسي والطامحين الى السلطة والحكم، علماً أن الجميع يتحدث عن الديمقراطية ومحاربة الديكتاتورية والفساد والاستبداد، في حين؛ واقع الحال ينبأ عن "تطبيع ديكتاتوري" ربما غير مقصود، واستساغة لكل حالات الانحراف السياسي من فساد واستبداد بالرأي وانتهاك لحقوق الآخرين، على أن هذا هو القدر المحتوم لهذا الشعب – كما يروج البعض- أو ان هكذا قيادة تليق بشعب بهكذا مستوى من الوعي والثقافة، وهذا بحد ذاته تجنّي آخر على عامة الشعب العراقي المتشكل من شرائح ومكونات، تضم مستويات متفاوتة من العلم والمعرفة والثقافة، وبين هؤلاء من يتطلع الى الانتخاب الصحيح، ويميز بين الفاسد والصالح.
ولذا نجد هذا الوعي والثقافة من ألدّ أعداء الحكام الجدد، رغم ادعائهم بمحاربة الديكتاتورية البائدة، فيجدون مصلحتهم في تسطيح الوعي وتجميد الثقافة إن وجدوا الحرج في مواجهتهما بشكل صريح ومباشر، الامر الذي يستدعي تعبئة شاملة من الشريحة الواعية والمثقفة من أهل القلم والبيان والعلم والمعرفة، بأن يعمقوا الوعي ليشمل جميع نواحي الحياة، ومنها الوعي السياسي حتى يكون بمقدور الانسان، الفرد والمجتمع من الانتخاب الصحيح، مستفيداً من حقه في ممارسة مختلف انواع "الحرية الخلاقة" التي تمكن من سبر غور الاحداث وخلفياتها وملابساتها والوقوف على العوامل المحركة ثم اتخاذ الموقف اللازم منها، إن كانت تتحرك بالضد من مصالح البلد والانسان، ومن ثمّ وضع نهائي لحالة الديكتاتورية المقنعة حديثاً التي تلغي دور العقل والارادة وتجر البلاد من جديد الى مزيد من التخلف والحرمان والخسران.
اضف تعليق