q

لا تزال اصداء العودة السعودية للعراق تتردد على السنة المحللين ورجال السياسة ليس في البلدين فحسب؛ بل على مستوى الشرق الاوسط عموما، لما تمثله الرغبة السعودية الجامحة في تسريع وتيرة الروابط مع العراق، وما يعنيه ذلك من تحولات قد تنعكس على ملفات منطقة الشرق الاوسط.

العراق كان راغبا منذ الايام الاولى لسقوط نظام حزب البعث الاجرامي عام ٢٠٠٣ بعودة العلاقات مع الدول العربية ومنها مع السعودية، وبذل محاولات كثيرة في هذا المجال، لكن مساعيه هذه قوبلت برفض سعودي مشفوع بحالة من التعالي، وتغلب عليه النزعة الطائفية والخوف من التجربة السياسية العراقية الجديدة وامكانية امتدادها لمنطقة الشرق الاوسط.

ما يحدث هو تغيير في المواقف السعودية تجاه العراق هو تحول جذري وسريع جدا، فالنية بفتح قنصلية سعودية في النجف الاشرف تعني الكثير اذا ما رجعنا قليلا الى المنطق السعودي السابق الذي لا يرى في هذه المدينة تحديدا الا مركزا للكفر بحسب الفتاوى الوهابية، عززها التطرف الواضح لسياسة البلاد الخارجية منذ تولي الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم، وابنه محمد ولي عهده والحاكم الفعلي للبلاد، الذي اتبع ما يسميه "سياسة الحزم"، ابتدأها في اليمن ولم يستطع الخروج منها بكرامة منذ ما يزيد عن سنتين.

والتغير ازاء العراق (غير المرغوب فيه زمن الحزم)؛ ليس غريبا على السياسة الخارجية السعودي كونها ارتجالية في اغلب الاحيان، لكن ما الذي يدفع السعودية الى العودة للعراق بعد ربع قرب من القطيعة؟ وهل هذه العودة دائمية ام مؤقتة؟ وهل يجوز لدولة مثل العراق ان تعقد علاقة حب مع دولتين متخاصمتين بحجم وشكل (ايران والسعودية)؟

انقسمت تحليلات الانعطافة السعودية لعدة اتجاهات:

منهم من رأى ان العراق نهض من تحت ركام الحرب ليكون احد اعمدة السياسة الشرق اوسطية ولا غرابة ان يصبح قبلة للدول الاخرى باعتبار ان العلاقات الدولية ومعايير الاحترام فيها تقوم على منطق القوة ولا مجال فيها للقيم والمعايير العربية او الاسلامية، وانتصاراته على اقوى جماعة وحشية في العالم تجعله نجما لامعا في ظلمات الشرق الاوسط.

اما الاتجاه الثاني فلا يبعد كثيرا عن وجهة النظر الاولى، فهو يرى بان السعودية تريد فتح باب خلفي للتفاوض مع الغريم التقليدي (ايران)، والعراق هو اقرب طريق لفتح خطوط الاتصال بين الرياض وطهران، يستدل اصحاب هذا التحليل بما قاله وزير الداخلية العراقي قاسم الاعرجي في التصريح الذي نشرته وسائل الاعلام "على انه تسريب اعلامي"، والتصريح لقناة العربية ايضا واللذان يقول فيهما ان السعودية طلبت من العراق ان يكون وسيطا بين ايران والسعودية.

الاتجاه الثالث يفسر الامور من نظرية المؤامرة الداخلية في العراق ولا علاقة للتغيرات في السعودية بها، إذ اتُهِمَتْ بعض الجهات السياسية العراقية بالتحرك من اجل بيع الانتصارات التي تحقق على الارهاب مقابل دعم سياسي عربي، وهذا الفريق يمكن ان نطلق عليه معارضة سياسية للتحركات الجديدة بين العراق والسعودية؛ اكثر من كونه تحليلا لما يجري هذه الايام.

ما تقوم به السياسية السعودية في زمن محمد بن سلمان اول الشهر قد لا يدوم لاخره، والقرارات في موسم الحزم سريعة لدرجة الجنون، قاموا بحملة (غبية)، ضد اليمن ولم يستطيعوا الخروج منها لحد الان، واسسوا تحالفا اسلاميا لمحاربة الارهاب من ثلاثين دولة ولم يُرى اي اجتماع له بعد اعلانه، ثم دعموا الجيش اللبناني بالصفقة العسكرية الفرنسية وفسرت في حينها على انها تستهدف مزاحمة حزب الله ثم سحبوها وانسحبوا كليا من لبنان تاركين المجال لخصمهم الايراني، وتحالفوا مع مصر فراحت القاهرة تصوت لصالح خصمهم السوري بشار الاسد، وبالامس شاركت مصر بقوة في معرض دمش الدولي الذي يحمل رسالة نهاية الازمة السورية كما صرحت مستشارة الرئيس السوري بشار الاسد.

هذه هي طبيعة السلوك السياسي السعودي، يعتمد على ردات الفعل دائما، حيث تسير الرياض من دون استراتيجية واضحة، اذ لا يمكن تفسير هجومها على قطر وهي لم تحسم ملفات سوريا واليمن والعراق ولبنان؛ الا في اطار غياب الرؤية الواضحة حتى وان ادعى محمد بن سلمان انه يستطيع ان يرى لمدى يوصله الى عام ٢٠٣٠ بخطته الاقتصادية.

وبالعودة للملف العراقي تؤكد معطيات السياسة السعودية بما لا يدع مجالا للشك انها عودة مرتبكة، ولا تختلف عن مشاريع محمد بن سلمان السابقة، يرفعها ترويج اعلامي ضخم ويحطمها واقع سياسي معقد لا يمكن حله بمؤتمرات صحفية لا يتجاوز عددها اصابع اليد الواحد، ولا يتعدى الحديث فيها عن "بحث الموضوعات ذات الاهتمام المشترك".

واذا صحت التحليلات التي تقول بوجود مساعٍ سعودية لبناء علاقات استراتيجية مع العراق؛ فانها لم تاتي لمحاربة ايران وتقليص نفوذ حلفائها لان ما يجري هو عكس ذلك، فهي اعترفت بشكل علني بالوجود الايراني في العراق من خلال استضافتها وزير الداخلية العراقي المقرب جدا من طهران، واستبعادها بناء اي علاقة مع جماعات سنية بما يثير غضب الحكومة العراقية التي تتمتع بعلاقات قوية مع ايران.

السعودية تشعر بالخطر وتعاني من مشاكل داخلية على رأسها مشكلة الحكم في البلاد والتنصيب المنتظر لمحمد بن سلمان، يضاف لها العلاقة المتوترة بين المؤسسة السياسية الحاكمة والمؤسسة الدينية، اما خارجيا فموقفها في جميع الجبهات ياخذ منطقة الهزيمة، وباجتماع مشاكل الداخل والخارج نرى ان ذلك قد خلق دافعا لفتح ابواب العراق لعلها تقدم طوق النجاة لمملكة (آل سلمان)، والى حين حل مشاكلها (السعودية)، يمكن للفتاوى التكفيرية ان تقصف العراق من جديد.

اضف تعليق