تتدرج الأمم في مدارج النمو خطوة بعد أخرى، مستفيدة من مزاوجة الخبرة مع المكتشَف، ففي الأعم الأغلب يختلط القديم مع الجديد، فيولَد ما يسمى بالجيل المتفوق، وهذا الجيل لا يخرج من (ثقب الحائط) كما يُقال، وإنما هو محصول تاريخ من المثابرة والجدية والتخطيط والصبر والعمل، وهو الذي يضع أقدام الأمة في جادة السير الى أمام على نحو دائم.
هناك كيفية عمل يسير عليها التطور، فيدبّ عبر مدخلات فكرية تبادر بها عقول ابتكارية، فالمبادرة هنا هي الأساس، وقد جاء عنها في معجم المصطلحات الفقهية، أنها تأتي في معنى بادر يبادر مبادرة، وهو الإسراع وعدم المماطلة، أما في اللغة فالمُبادَرة تعني السبْق إلى اقتراح أمرٍ أو تحقيقه، وقد تطور مفهوم المبادرة خلال السنوات الأخيرة، فأصبحت المبادرة فكرة وخطة عمل تطرح لمعالجة قضايا المجتمع وتتحول إلى مشاريع تنموية قصيرة المدى، وتصدر عادة عن المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية والجمعيات الخيرية والتطوعية، وقد تكون المبادرة فردية أو جماعية، كذا توجد لها أنواع من حيث الهدف، فربما تكون سياسية أو اقتصادية وقد تكون ذات هدف حربي وهكذا، وتعني المبادرة في معجم المعاني الجامع سبْقا إلى اقتراح أمرٍ أو تحقيقه، ففي الحرب تعني أن يسبق قائدُ جيش قائدَ جيش العدوّ إلى خطَّة حربيَّة تمكِّنه من الانتصار عليه، وتعني أيضا القدرة أو الميل المطلوب لبدء شيء ما مثل تجارة، أو عمل أو هدف ما يقرره الشخص، وهذا ما يهمنا بالضبط، فنحن نبحث في المبادرة الفردية والجمعية التي تلتصق بالإنسان والشباب على وجه التحديد.
أما الشيء المضاد أو المناقض للمبادرة فهو الخمول، تُرى هل يعاني الإنسان في مجتمعاتنا من الخمول، ونحن هنا نستهدف الأمم المتراجعة على المستوى العالمي، ومن بينها بعض دول المسلمين والعرب كذلك، ومن بينها العراق، فالناس كما نتأمل ذلك في حركتهم ونشاطهم، يبدون كأنهم لا أهداف لهم، وفي علم النفس من لا هدف له لا حركة له ولا رغبة صوب الفكر، خامل كسول مستكين هاجع كما يصفه اللغويون، أي أنه لا ينزع الى الحركة أو التفكير من أي نوع كان، بالإضافة الى جمود القطاع الخاص في تنمية روح المبادرة في التفكير أو العمل.
ترى كيف تنطفئ حاجة التفكير في داخل البشر؟ يحدث هذا يكون الإنسان محاصَرا بالخمول وروحه شبه منطفئة وسقف الطموحات لديه منخفض، ومستوى المبادرة الى التفكير تصل درجة الصفر وقد تكون تحته أحيانا، وفي الأفق تلوح مسببات تفق وراء ذلك، فما هي من وجهة النظر النفسية والاجتماعية والتربوية حول ذلك، هل مجتمعاتنا راكدة الى هذا الحد، وهل شبابنا مكبَّلون بالسوداوية وضياع الأمل وخلو الحياة من دوافع الاندفاع قُدُما؟ ربما يكون الأمر كذلك، ولكن ثمة أسباب لا مفر من البحث عنها ودراستها بدقة كي نصل الى المعالجة الأنجع.
لماذا نعاني من خفوت التفكير الجديد، هل لدينا شباب مطوَّق باليأس والإهمال، ويعاني من ضبابية في الهدف وضآلة في الرؤية وسكون مطلق في الطموحات وغياب شبه تام للتخطيط الرسمي والمدني؟ لا أحد يهمه هذا الخمول المخيف للشباب وغيرهم، لا أحد يوجعه قلبه على ما يحدث من تراجع وخمول وكسل للإرادة، العقل الشبابي محاصر بالنواقص من جهة والعوائق والسدود من جهة أخرى فيما تفكير صانعي القرار وعقولهم محاصرة بالمنافع السريعة حتى لو كان وقودها الشباب وبسطاء الناس، كما أن جماعات الضغط لم تعد تجدي نفعا ربما قدمّت ما بوسعها حتى تحوّل سخطها ونقمتها الى نشاط مجمّد وحركة آلية تسير هي أيضا نحو الخفوت والانطفاء، أحيانا نسمع صرخة احتجاج هنا أو هناك، نرى مبادرة صغيرة هنا أو هناك، هذه الأصوات والحركات الساخطة على صانعي القرار لم تنجح في التغيير، كما أنها لم تشعل فتيل الفكر في الرؤوس الشبابية أو سواها، فتضمحل المبادرات الفكرية وعدم إشراك القطاع الخاص في ذلك.
بالطبع نحن لا نهدف الى تثبيط الهمم، ولا نرسم واقعا جامدا، ولكننا نحاول مواجهة الواقع كي نبادر الى معالجته فكريا، فليس هناك أسرع وأقوى وأكمل وسائل الفكر للنهوض بالإنسان، إذاً يجب أن نرصد ما يحدث فعلا ولا نأتي من عندنا بشيء، وإنما نتكلم عمّا نراه لا على ما نتمناه أو نحلم به فواقعنا لا يسرّ وعلميتنا لا يمكنها النهوض بنا إذا لم يكن هناك جذوة متوقدة تشعل في أعماقنا وإرادتنا روح المبادرة، مجتمعنا بحاجة الى رؤوس تعرف كيف تطلق المبادرات الفكرية الجديدة المحركة للواقع باتجاه التواؤم مع العالم المتقدم وليس سواه.
إننا حين نطلق الكلمات بهذه الصيغة الصريحة، فليس الهدف أن نغالي في رصد حقائق مأخوذة من حركة الناس وأفكارهم، هل نرسم واقعا يختلف عن واقعنا الذي نعيش، هل شبابنا في خير ونحن نتهمهم بانطفاء هممهم وأرواحهم وضآلة عقولهم وقلة طموحهم ومشاريعهم؟، هل أولي الأمر منّا سياسيونا وصانعو قراراتنا يؤدون ما عليهم ويدعمون روح المبادرة لدى الشباب وينمّون مواهبهم ويستوعبون طاقاتهم؟ هل نحن نتجاوز على الواقع ونحرفهُ عمّا هو عليه؟ هذه أسئلة واقعية ملحة يجيب عنها بوضوح واقعنا أو ينبغي ذلك حتى يمكننا رؤية هذا الواقع كما هو ونصنّع له بمساعدة القطاع الخاص مبادرات تفكير توائمه جيدا.
إن بث روح المبادرة الفكرية ومنح الثقة وتهيئة اللوازم والأرضية الصحيحة التي تدعم إرادة الشباب وعامة الناس هي أهداف لا يجوز وضعها خلف ظهورنا وتقديم ما يشغلنا من مطامح آنية، لا تعدو كونها منافع لا تسمن ولا تغني من جوع، في مقابل مراعاة ما هو أهم وأبقى وأكثر فائدة وفاعلية من المنافع السريعة فكيف السبيل الى ذلك ومن له إمكانية رأب الصدع، وخرق ما هو سائد وفرض ما هو مغاير؟، حتى نتلمّس طريقنا بإرادة واعية قوية متوقّدة، ولكن من هو صاحب القرار القادر على ترويض المشهد المكتظ بالتردّي ومعالجة ما ينبغي علاجه؟ نحن نرى جانبا مهما من الحل يكمن في ترتيب برنامج معتمد للمبادرات الفكرية التي يسهم بها الجميع وأولهم القطاع الخاص.
اضف تعليق