تُعد قضية العلاقة بين الإسلام والديمقراطية من القضايا التي شغلت إهتمام عدد كبير من الباحثين والمفكرين، سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي على حد سواء. ولعل مرد ذلك الإهتمام هو الجدل الدائر حول طبيعة تلك العلاقة، وهل يمكن عدها علاقة يقترب بها الإسلام بمبادئه وأهدافه من مبادئ وقيم الديمقراطية المعاصرة؟، أم يكون الإسلام قد سبق الديمقراطية بمفهومها المعاصر؟، أم يرفض الديمقراطية بإعتبارها نتاجا للمجتمعات الغربية.
إن محاولة تحليل العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، لا تعني إبتداءا إجراء مقارنة بينهما، لأنه ما من شك أن الإختلاف بينهما واضح ومعلوم، لأن منشأ هذا الإختلاف نابع من مصدر كل منهما، فالإسلام مصدره وواضعه هو الله تعالى، بينما الديمقراطية مصدرها هو الإنسان الضعيف المحدود في قدراته.
يذهب أغلب المفكرين الإسلاميين إلى أن الإسلام قد عرف الديمقراطية، رغم عدم ورودها حرفيا في القرآن الكريم، وهذا يعني أسبقية الإسلام على الغرب في ذلك، بل حتى ممارستها فعليا على وفق المفهوم الاسلامي. فالديمقراطيات المعاصرة جميعها والتي يتغنى بها الغرب ويمجدها ويحارب في سبيل تثبيتها، قد وطد الإسلام أركانها، وثبت دعائمها قبل اليوم بأربعة عشر قرنا من الزمن، إذ أن نظام الحكم في الإسلام يقوم على إختيار الخليفة الذي يشترك الناس في إختياره إختياراً حراً، وفي هذا الصدد يذهب الزعيم الهندي (جواهر لال نهرو) إلى القول: "إن الإسلام جاء برسالة الإخوة والمساواة والعدل بين جميع المسلمين، وهكذا ولّد في العالم مبدأ ديمقراطي جديد".
وتتحدد أولى مبادئ الإسلام السامية في نظرته إلى الإنسان، إذ سما الإسلام بالإنسانية إلى أعلى مراتبها، حيث جعل الله تعالى الإنسان خليفة في الأرض لعمارتها وإقامة أحكام شريعته فيها، قال تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ"، وقوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ". بمعنى أن الإسلام قد حبى الإنسان بتكريم عظيم عندما جعله الله تعالى خليفته في الأرض، ويتساوى بهذا التكريم جميع البشر بصفتهم الإنسانية مهما اختلفت الوانهم ومواطنهم وأنسابهم، كما يتساوى في ذلك الرجال والنساء، قال تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا".
كما أن الإسلام بكونه منظومة متكاملة ومتفاعلة في التأريخ البشري، أقر مبدأ التعدد الديني رسميا داخل المجتمع الواحد. وقد وصف (لاني بول) وهو أحد مفكري الغرب، الحرية الدينية في الإسلام بقوله: أنه في الوقت الذي كان التعصب الديني قد بلغ مداه، كانت هناك مفاجأة للمجتمع البشري الذي لم يكن يعرف حرية التدين، إذ جاء الإسلام بمبدأ الحرية الدينية والفكرية كما في قوله تعالى: "لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ".
وقد عرف المجتمع الإسلامي أول دستور مكتوب في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) في عام 622م والذي يعد أول وثيقة سياسة وحقوقية تعترف بالمواطنة غير المبنية على أساس الإنتماء الديني. كما هو شائع في الدول والحضارات البائدة والمعاصرة لصدر الإسلام والنظم السياسية التي جاءت بعد ذلك. وقد أعترف دستور المدينة بالمجتمع السياسي المتكون من فئات ذات إنتماءات دينية مختلفة، فقد أقر بوجود دينين (الإسلام واليهودية)، ومكونين إجتماعيين وثقافيين مختلفين (المسلمين واليهود) داخل الوطن الواحد والمجتمع السياسي الواحد والدولة الواحدة، وقد ترتب على هذا الإلتزام السياسي نشوء حقوق للمواطن غير المسلم يضمنها المجتمع السياسي والدولة الإسلامية.
وإذا كانت الديمقراطية بوصفها الحالي قد حملت أفكارا ومبادئ تنادي بالحرية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان والتعددية السياسية، فإن الإسلام لم يكن بعيدا عن هذه المبادئ والقيم، بل أن كثيرا من الديمقراطيات المعاصرة قد اقتبست أفكارها ومبادئها من المبادئ التي جاء بها ونادى بتطبيقها الإسلام.
فالإسلام دين عالمي جاء من عند الله تعالى لهداية كل الناس، لذا إقتضى أن يكون إستيعابيا. أي لم يكن الإسلام دينا ذا توجهات عنيفة، أو أنه يسلك طريق الإكراه مع الآخرين، بقدر ما كان دين تسامح وسلام، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ"، وقوله: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا".
كما أكد الإسلام على المساواة بين البشر، وبأن الناس خلقوا جميعا من نفس واحدة، ولهم الحصانة والكرامة التي يقرها القرآن للإنسان بصفته تلك بصرف النظر عن ملته أو عرقه. وأن حلقة الوصل والقاسم المشترك بين القبائل والشعوب والأديان المختلفة انما هو الإيمان والتقوى والعمل الصالح، كما في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ". كما أن الإسلام أكد مبدئياً وكحكم عام ومطلق على المساواة بين الرجل والمرأة، كما في قوله تعالى: "لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ".
والإسلام بكونه ديناً إنسانياً عالمياً، فقد أولى حقوق الإنسان كونه خليفة الله في الأرض أهمية متميزة، ولعل في مقدمة تلك الحقوق حق الحياة وحق العدالة، وحق التعبير عن الرأي، فضلا عن الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي تعد من الحقوق الإنسانية العامة التي ركز عليها الإسلام.
أما على صعيد نظام الحكم، فقد سبق الإسلام الديمقراطية المعاصرة من خلال وضع القواعد التي يقوم عليها، وترك التفصيلات لإجتهاد المسلمين وفق أصول دينهم ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان. وفي هذا الإطار، تعد الشورى في الإسلام أوسع من الديمقراطية بمعناها المعاصر، فالشورى تمثل مبدأ الإجماع ووحدة الأمة التي لا يمكن لها أن تنفصل عن الحرية، كما أنها تتطلب من الحاكم أن يستشير القوم وبأية طريقة كانت قبل أن يقرر أمراً ما.
وإذا ما نظرنا إلى نظام الإنتخابات أو التصويت فهو في نظر الإسلام (شهادة) للمرشح بالصلاحية، فيجب أن يتوافر في صاحب الصوت، ما يتوافر في الشاهد من شروط بأن يكون عدلا مرضي السيرة، كما قال تعالى: "وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ".
كما يؤكد القرآن الكريم على التعددية السياسية داخل المجتمع المسلم، كما في قوله تعالى: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فإن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".
فضلا عن ذلك، فقد وجد الإسلام فصلاً كاملاً وعضوياً بين جهة التشريع والسلطة السياسية التي تتولى التنفيذ والحكم، أي ما يعرف حالياً بمبدأ (الفصل بين السلطات). وقد تميز الإسلام به عن غيره من الأنظمة الديمقراطية الحديثة، وسبقها لتطويره منذ أكثر من ألف عام، من خلال وجود مرجعية معينة منزهة عن الهوى وخارج نطاق هيمنة الدولة، وهي تتمثل في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، وتمثل هذه المرجعية موازين العدل وتضبط حركة المجتمع بأسره.
بمعنى آخر، إن السلطة التشريعية في الإسلام تكون مودعة في الأمة كوحدة ومنفصلة عن سلطة الإمام أو رئيس الدولة (السلطة التنفيذية). فالتشريع يصدر عن الكتاب، والسنة، أو إجماع الأمة، أو الإجتهاد، فهو مستقل عن الإمام، كما أن القضاء يكون مستقلاً هو الآخر، لأنه لا يحكم وفقا لرأي الحاكم أو الرئيس، وإنما يحكم وفقا لأحكام الشريعة وعدم مخالفتها.
ونظرا للتشابه بين الأركان التي يقوم عليها الإسلام والديمقراطية والمتمثلة في المسؤولية الفردية وعموم الحقوق وتساويها بين الناس، وجوب الشورى على ولاة الأمور، التضامن بين الرعية على إختلاف الطوائف والطبقات، يمكن القول أن الشورى في الإسلام هي الديمقراطية بمعناها المعاصر، ومن ثم فإن ممارسة الأمة لمسؤولياتها التي هي ركن في الشورى وفي الديمقراطية، هي عنوان الديمقراطية الإسلامية الأصيلة المسؤولة الملتزمة بمبادئ الإسلام.
فالديمقراطية بوصفها حكم الشعب بواسطة الشعب ومن أجل الشعب قد ولدت في رحم الإسلام، وإذا كانت الديمقراطية تتضمن وجود مبادئ أساسية سواء أكانت سياسية، أم إقتصادية، أم إجتماعية، ومبادئ المساواة وحرية الفكر والعقيدة، أو كفالة حقوق معينة كحق الحياة، أو العمل، فلا شك أن تلك المبادئ وهذه الحقوق متحققة ومكفولة في الإسلام. ومن ثم يمكن وصف الديمقراطية التي جاء بها الإسلام بأنها ديمقراطية إنسانية، وعالمية، ودينية، وأخلاقية، وروحية ومادية معاً، بمعنى شمولية مبادئ الإسلام لكافة جوانب المجتمع وعلى صعيد البشرية جمعاء.
ومما تقدم، نستنتج أن محاولة التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، ومن خلال التعمق في دراسة مبادئ وقيم كل منهما سوف يرتب نتيجتين: الأولى، تتمثل في التماثل والتقارب الكبير بين ما يحمله الإسلام من مبادئ وقيم كالعدالة، والمساواة، والحرية، وبين ما تنادي به الديمقراطية من مبادئ أيضا قائمة على حقوق الإنسان والحرية. أما الثانية، فإنها تتمثل في أن الإسلام بمبادئه وقيمه هو أوسع وأشمل من أن نقارنه بمفهوم الديمقراطية المعاصرة.
فالديمقراطية بوصفها طريقة أو آلية وضعية، صاغها الإنسان من أجل تلبية متطلبات الحياة الضرورية، فإن الإسلام بإعتباره دين ونظام قد كرس المبادئ الديمقراطية وأكد على ضرورة التمسك بها وعلى مختلف المستويات السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية، بل وحتى الثقافية منها.
وعليه، فإنه مهما تعددت التسميات والمفاهيم فإن جوهر الديمقراطية متأصل في قيم وتعاليم الإسلام كونه ديناً عالمياً، وإنسانياً في آن واحد، وبخاصة المبادئ القائمة على الشورى، والحرية، والعدل، والمساواة. ولما كانت الشورى أحد العناصر الأساسية للنظام الإسلامي، والتي لم يضع الإسلام نظاماً تفصيلياً لتطبيقها وممارستها، تاركا ذلك لكل مجتمع وفق ظروفه ومستوى تطوره وحاجته، وكون الديمقراطية المعاصرة توفر آليات تتيح للناس المشاركة في أمورهم العامة، فإنه من الممكن العمل بالآليات الديمقراطية في إطار الشورى، أو تطبيق الشورى عن طريق الآليات الديمقراطية.
وفي ضوء ما تقدم يمكن الوصول إلى بعض الإستنتاجات حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية وهي:
1- إن الإسلام لم يكن ذو أفق محدود، ولم يخاطب جماعة أو أمة معينة، وإنما نظرته كانت إنسانية، وأفقه عالمي، في حين أن الديمقراطية المعاصرة تقترن بالعالم الغربي وبقيمة الليبرالية، وتخاطب شعب يعيش في إقليم معين، وضمن نطاق جغرافي محدد، تجمع بين أفراده عادات وروابط مشتركة كرابطة الدم، والجنس، واللغة.. الخ.
2- إن الديمقراطية التي جاء بها الإسلام كانت لها أهداف روحية ودنيوية في آن واحد، بل أن الإسلام جعل من الأولى هي الأساس وهي الأسمى لتحقيق غاية الإنسان، في حين أن أهداف الديمقراطية بمفهومها المعاصر هي أهداف دنيوية فقط (تحقيق سعادة الشعب أو الأمة).
3- إن سلطة الأمة في الإسلام ليست مطلقة وإنما هي مقيدة بالشريعة، فضلا عن التزامها بالقيم، والفضيلة، والأخلاق، وغيرها من المبادئ التي جاءت في الكتاب والسنة، في حين أن سلطة الأمة في الديمقراطية المعاصرة هي سلطة مطلقة، كون الأمة هي صاحبة السيادة.
4- في الوقت الذي يؤكد فيه الإسلام على ضرورة المحافظة على خصوصيات الجماعات والقوميات الأخرى وعدم المساس بها، سواء على صعيد العقيدة أو الفكر، نجد أن الديمقراطية بمفهومها الغربي اليوم، لا سيما في شقها الثقافي، تؤكد على النزعة المادية، وعلى صهر جميع ثقافات العالم في ثقافة واحدة الا وهي ثقافة العولمة.
اضف تعليق