في القرن السابع عشر برز باروخ سبينوزا الفيلسوف الهولندي من اصل برتغالي - يهودي. ورغم ان سبينوزا كان رقيقا ومرنا، لكنه نُبذ من جماعته بسبب افكاره الراديكالية المشاكسة. اهم كتاب له كان كتاب الاخلاق Ethics عام 1677 ويتعلق بعرض مضامين طبيعة الله في السعادة الانسانية. ومن المدهش ان هذا العمل هو ملائم جدا لزماننا الحالي، انه يساعدنا في فهم بعض القضايا المربكة في العلوم المعاصرة. سنحاول بيان ان ميتافيزيقا سبينوزا اضافة الى كونها نظاما جيدا نفهم من خلاله سلوك الجسيمات الاولية كما وصفتها ميكانيكا الكوانتم، فهي ايضا تسمح لنا بتوضيح ادق لمشكلة الجسم-الذهن في علوم الادراك.
موقفان ميتافيزيقيان حديثان
ليس من السهل تعريف ذلك الفرع من الفلسفة الذي يسمى ميتافيزيقا، لكننا نستطيع القول ان الميتافيزيقا عموما تتعلق بالأفكار الاساسية التي تشكل اساس الحقيقة. انها تتعامل مثلا مع المادة، السببية، الهوية، والنشوء، وانها تعتمد على مقدرتنا في التفكير حول اشياء لا يمكن ملاحظتها او قياسها بشكل مباشر. في العلوم الحديثة هناك تأكيد كبير على الملاحظة والقياس والذي لسوء الحظ يميل لطمس اهمية النظرية في العلوم. موضوع الميتافيزيقا يساعدنا في جعل رؤيتنا العامة أكثر شمولية عبر دمج رؤى من العلوم ضمن فهمنا العام للحقيقة وهو الفهم الذي لا يمكنه الاعتماد فقط على الملاحظة.
هناك رؤيتان ميتافيزيقيتان هامتان معاصرتان هما الاختزالية العلمية scientific reductionism وهي الموقف المادي، والمثالية الرياضية mathematical idealism التي تؤمن بان اساس المكان والزمان ليس الجسيمات دون الذرة وانما هو حقائق رياضية معينة. كلا الموقفين ينطلقان من تقاليد طويلة في الفكر الغربي، وكلاهما يُنظر لهما بجدارة. الاختزالية العلمية تشتق قوتها من نجاحات العلم الحديث، والذي هو ذاته مشروع اختزالي الى حد كبير- بمعنى انه يميل لتوضيح العالم المعقد باعتباره طبقات من مكونات اساسية. المثالية الرياضية تحفزت خصيصا بنجاح علوم الكومبيوتر في خلق نماذج للعالم مرتكزة على اساس رياضي، وهي في الحقيقة كانت ناجحة جدا لدرجة اننا وجدنا في التيار الرئيسي للفلسفة دخول فكرة ان الكون ذاته هو برنامج محاكاة كومبيوتري انتجته حضارة متقدمة.
غير ان كلا الموقفين غير مقنعين. فمثلا، من غير الواضح ان سمات لتجاربنا يمكن اختزالها او التعبير عنها كليا بأشياء فيزيقية. واذا كان العالم مركب من حقائق رياضية، فان السؤال الذي يبرز هو كيف نستطيع الحصول على اي معرفة بهذه الحقائق، كونها خارج الزمان والمكان؟ ايضا، اذا كنا نفترض ان هذه الاشياء الرياضية هي ذهنية في طبيعتها فنحن ربما ننتهي بجدال دائري: اذا كان الذهن يمكن اختزاله الى نشاط الدماغ، ونشاط الدماغ يمكن اختزاله الى التفاعلات بين الخلايا العصبية، العمليات داخل الخلايا العصبية تُختزل الى التفاعلات بين الجزيئات، والجزيئات الى الذرات، والذرات الى جسيمات دون الذرة، والجسيمات دون الذرة الى نقاط الزمان والمكان، وهذه الى مجموعة من الأعداد، واخيرا هذه المجموعة من الأعداد تُختزل الى قوانين رياضية تربط بينها - والتي يرى البعض انها بالضرورة كينونات ذهنية - وهذا ما سيعود بنا الى نقطة البداية.
ميتافيزيقا سبينوزا: المخطط العام
قبل ان نتخلى عن المشروع الميتافيزيقي ونأخذ برؤية الشك بان المحرك لهذا العالم الذي نلمسه لايمكن معرفته (او غير مثير للاهتمام)، لننظر في فكر سبينوزا والذي كما سنرى منسجما مع العلم الحديث. يرى سبينوزا ان الطبيعة –التي يساويها مع الله– هي تامة بالمطلق، ومقررة، لانهائية ولايحدها زمن. هذا الاله اللامتناهي او الطبيعة ينطوي على كل شيء. جميعنا جزء منه ولاشيء موجود خارجه. نحن الكائنات الانسانية نستطيع إدراك خاصيتين لهذا الوجود اللامحدود وهما التمدد والتفكير، وكلاهما يعبّران عن جوهره اللامحدود، وهما يتطابقان مع بعضهما، لانهما يعبّران عن نفس الحقيقة. الى جانب التمدد والفكر هناك العديد من السمات اللامحدودة للوجود اللامحدود لا نستطيع بلوغها ولكنها مع ذلك تعبيرات عن نفس الوجود الذي هو ايضا غير مقيد بالزمان.
ولكي نثمّن عظمة هذا التفكير، تجدر ملاحظة ان الرؤية التي كانت سائدة ايام سبينوزا للكون في اوربا لازالت فكرة القرون الوسطى الموروثة من ارسطو وبطليموس عن الكون المحدود. وكما يشير جوزيف راتنر في (فلسفة سبينوزا، 2014)، ان رؤية سبينوزا للكون لاتتفوق فقط على نزعة القرون الوسطى، وانما ايضا على الرؤية المعاصرة السائدة عن الكون كنظام فيزيائي خالص. لذا دعنا نفصّل أكثر عن ميتافيزيقا سبينوزا ونعرض بعض الامثلة التي توضح لماذا هي مثيرة لأي شخص التبست عليه صلتنا بهذا الكون.
نظرية الوجود الواحد Spinoza’s Monism
كتاب الاخلاق لسبينوزا ينقسم الى خمسة اجزاء. الجزءان الاوليان يتعلقان بالميتافيزيقا ويناقشان الله وعلاقة الذهن بالجسد. في الجزء الاول يساوي سبينوزا بين الله والمادة المتفردة اللامحدودة التي تحكم كل الواقع. تجدر ملاحظة ان ما يعنيه سبينوزا بالجوهر substance (1) هو كلي متكامل لا يمكن لنا ممارسته مباشرة. بعض المعاصرين لسبينوزا يؤمنون بان هناك العديد من الجواهر. ديكارت (1560-1650) جادل بان هناك جوهران هما الذهن والمادة واللذان لهما سمات مميزة من التفكير والتمدد. هو ادّعى ايضا ان كل فرد هو بطريقة ما اتحاد متفاعل من هذين الجوهرين. بالمقابل، سبينوزا يؤمن ان هناك جوهر واحد فقط. ولأنه لامحدود ويشمل كل شيء، ومبدع، لذلك فهو مساوي لله. في المتبقي من كتاب الاخلاق يكشف سبينوزا مضامين هذه الرؤية لفهم العلاقة بين الذهن والجسد، ومن ثم لاحقا لغرض فهمنا للعواطف والمعرفة والاخلاق.
احد الاهداف التي يرسمها سبينوزا في الصفحات الاولى من كتاب الاخلاق هو إعطاء توضيح لوجود الاشياء. فمثلا، ربما يسأل احد هل ان سبب وجود الاشياء يقع ضمنها او خارجها؟ يجيب سبينوزا على هذا السؤال بالقول ان تعاريف الوجودات عادة لا تتضمن العدد المحدد من الافراد من ذلك النوع الموجود. فمثلا، لاشيء هناك ضمن الطبيعة الانسانية، او في تعريف "الانسان"، يحدد ان هناك حاليا سبعة بلايين انسان. هذا يشير الى ان جوهرنا وتعريف "الانسان"، لايقرران كم سيكون عدد الناس الافراد. ولذلك، فان وجودنا ككيانات فردية يتقرر بكيان اكبر من انفسنا.
سبينوزا يعمم فيما بعد هذه الملاحظة ليقترح اذا كان هناك افراد عديدون لنوع الشيء، فان سبب وجودهم لا يمكن ان يكون ضمنهم، ولذلك فان جوهرهم لا يستلزم الوجود. هذا يستدعي السؤال: ما هو السبب الحتمي والنهائي لكل التنوع والتعقيد الذي نراه في الطبيعة اذا لم يكن تلك الاشياء ذاتها؟ يجيب سبينوزا بان المصدر النهائي لجميع الاشياء الموجودة –التي تحتوي على جميع الاشياء الاخرى الموجودة، والتي بدونه لن توجد– يجب ان يكون شيئا ما يستلزم جوهره الوجود فعلا. وبسبب تعريف هذه الكينونة لذا فانه يستلزم الوجود بالضرورة، انه لا يمكن ان يستلزم اي انكار للوجود. هذا يعني ان هذا الوجود غير مقيد، يشتمل على كل شيء، وغير محدد وأبدي. هذه هي الخصائص المعرّفة للسبب الذي وراء كل ما في الوجود.
هذا يقود سبينوزا لتعريف الجوهر بـ "ذلك الذي في ذاته ويتم تصوره من خلال ذاته" (الاخلاق الجزء الاول، تعريف3). وبتعبير اخر، الجوهر هو ذلك الجزء او المظهر للطبيعة الخالق لذاته. وباستعمال مصطلح سبينوزا، الجوهر هو طبيعة نشطة، او nurturing nature – والذي هو يساويها مع الاله. علاوة على ذلك، بما ان الجوهر بحكم التعريف يستلزم وجودا ضروريا، فاننا لا نستطيع انكار وجود هذه الكينونة. وبسبب انها لامحدودة وتضم كل شيء، فسيكون هناك فقط جوهر واحد.
اقتراح ان هناك مظهر للطبيعة خالق لذاته هو ليس غريب على الذهن الحديث المطلع على نظرية البغ بانغ، ومع نظرية التطور. غير انه من الصعب قبول ان هناك فقط عملية خلق ذاتية واحدة (والتي بسبب تميّزها نسميها الله). كذلك، بسبب ان هذه الكينونة تامة بالمطلق ومتفردة فان وصفها بـ "العملية" ليست ملائمة تماما طالما ان مصطلح عملية يتضمن شيئا ما يتطور. الجوهر "substance" هو مصطلح أكثر ملائمة لوصف هذه الكينونة التي لاتفتقر الى اي شيء، ولهذا طبيعتها لن تتغير.
ان الذكاء الانساني يستوعب جوهر سبينوزا من خلال خاصيتيه الاثنتين التوسع والتفكير(2). وبهذا نستطيع الاعتراف بالجوهر اما عبر تأمل لامحدودية – كون فيزيقي متمدد، او عبر اعتبار ان لامحدودية الافكار ممكنة ضمنه. الواقع بالنسبة لسبينوزا هو كل من نظام للأشياء ونظام للأفكار او تجسيداتهما. الكائنات الانسانية، مثلا، هم اجسام مركبة من اجزاء فيزيقية ولكنها ايضا تجسيدات representations، تشكل الاذهان الانسانية. وكما ذكرنا، ان جوهر سبينوزا يتضمن ايضا عدد غير محدود من خصائص اخرى غير معروفة بالإضافة الى الاثنين الذين نعرفهما. هذه الخصائص هي التي تجعل الشيء واقعيا ومتميزا – انها الوسائل التي من خلالها تتميز كينونة محددة واحدة عن غيرها. في اصطلاح سبينوزا، كل فرد في الطبيعة هو شيء معين لجوهر واحد.
يرى سبينوزا ان الفكر والتمدد هما مستقلان عن بعضهما مفاهيميا وسببيا، ولكن في نفس الوقت يتطابقان مع بعضهما. هذه المطابقة من السببية والمفاهيمية تُعرف بالتوازي parallelism وستكون هامة عند دراسة علاقة الذهن-الجسد.
ان الذهن لدى سبينوزا هو ليس سبب الكون الفيزيائي ولا ان الكون الفيزيائي سببا للذهن. سبينوزا يرى ان القوة الكامنة وراء وجود الطبيعة المادية ووراء عمل الذهن هي نفس الجوهر المتفرد والشامل لكل شيء، والذي ينطوي على كلا الخاصيتين بالتساوي.
الجوهر والعلم
لذا فان الله هو كينونة توجد بالضرورة، او بالتعريف. انه مظهر الطبيعة الخالق لذاته وسبب وجود اي شيء اخر. السؤال اللاحق هو لماذا الله/الطبيعة كما عُرّفت من جانب سبينوزا ملائمة لنا اليوم؟ الجواب هو ان هذه الفكرة توفر رؤية عن العالم منسجمة مع العلم المعاصر، والذي لايزال يفتقر لميتافيزيقا يمكنها استيعاب اكتشافاته المربكة.
اول مثال عن اكتشافاته المربكة هو ميكانيكا الكوانتم. لقد اصبح من الصيغ المألوفة بان لا احد يستطيع فهم السلوك الغريب للجزيئات الاولية التي تصفها ميكانيكا الكوانتم. فمثلا كيف يمكن للالكترون غير المُشاهد ان يكون في عدد لامحدود من الأماكن في وقت واحد؟ او كيف يمكن لحزمة من الضوء –فوتون- الانتقاء من كل الفضاء لإختيار اسرع ممر بين نقطتين، مثلما يقول ريتشارد فينمان في تفسيره لميكانيكا الكوانتم؟ الفكرة الشائعة في ميكانيكا الكوانتم هي بالضبط سلوك "غير مقيد" للجسيمات. هذا ينسجم مع فكرة ان هناك مظهر لامحدود في الطبيعة يحكم الواقع الذي نعيشه والتي هي بالضبط فكرة سبينزا عن الجوهر.
فكرة اخرى في ميكانيكا الكوانتم هي ان الجواب الذي تعرضه التجربة عادة يعتمد على السؤال الذي تسأله فمثلا، الموجة - الجزيئات الابتدائية يمكن رؤيتها تتصرف اما كموجات او كجسيمات اعتمادا على الكيفية التي تتأسس بها التجربة. كذلك، يبدو ان الملاحظة مطلوبة لمنح كينونات الكوانتم شكلا محددا. هاتين الخاصيتين للكوانتم يشيران بان هناك علاقة وثيقة بين الذكاء والطبيعة المادية في الكون تماما مثلما يرى سبينوزا. وفق تعبير سبينوزا، الذكاء واحداث الكوانتم المادية التي يراقبها الذكاء هما غير منفصلين لانهما مظهران لنفس الجوهر المتفرد والغير مقيد.
ان مبدأ وجود الانسان anthropic في علم الكون يشير الى ملاحظة مدهشة وهي ان الكون الذي نعيش فيه يبدو كما لو انه جرى ضبطه بطريقة تسمح بوجود الحياة. عدد من الحقائق الاساسية حول الكون، مثل حجم قوى معينة (مثل القوى النووية داخل الذرة) وطبيعة بعض الجزيئات دون الذرية هي ذات قيم دقيقة مطلوبة لتطوير المراقب الذكي كنحن. وكما يذكر الفيزيائي جون اي ويلر عام 1986، انه يبدو ان "عامل منح الحياة يكمن في قلب الماكنة الكلية والتصميم للعالم". هذا الوصف ينطبق بجدارة على تصور سبينوزا للطبيعة/الله.
باختصار، العلم الحديث يمنح دعما للوجود الواحد لسبينوزا بالاشارة الى ان هناك مظهر غير مقيد وخلاّق في الطبيعة، وايضا ان الذكاء والجسمانية هما مترابطان بقوة لاينفصلان.
المطابقة بين الذهن – الجسد
الآن نلتفت الى واحدة من اهم نتائج احادية سبينوزا، اي، عقيدة المطابقة بين الذهن والجسد.
في اول مقطع من الجزء الثاني من الاخلاق، متعاملا مع الذهن، يسعى سبينوزا ليكون واضحا في استنتاجاته حول الذهن مستتبعا رؤيته عن الله: "انا اسعى الان لتوضيح تلك الاشياء التي يجب اتباعها بالضرورة من كينونة الله او كينونة لامحدودة وابدية". كما لاحظنا، الله او الجوهر هو مظهر الطبيعة الخالق لذاته والذي، بسبب ضرورة وجوده، لايمكن تحديده باي شيء، ولهذا هو لانهائي.
بالنسبة لسبينوزا، الجسم الانساني له خاصية التمدد، والذهن الانساني له خاصية التفكير او التمثيل. كذلك، الذهن والجسم هما تجربتان متماثلتان لحقيقة اساسية واحدة، او نحن نستطيع القول ان الذهن والجسم هما نفس الشيء(جوهر) يُنظر اليه تحت مختلف الخصائص. في لغة سبينوزا التي ورثها من ديكارت، الفكرة هي تمثيل للشيء المرتبط بالفكرة. هذا يقود سبينوزا لاستنتاجه الشهير بان الذهن الانساني مساوي لفكرة الجسم الانساني. مطابقة سبينوزا تعني ايضا ان كل تغيير في جسم الانسان يجب ان يترافق مع تغيير في ذهنه : "مهما كان موضوع الفكرة المؤلفة لذهن الانسان يجب تصورها من جانب ذلك الذهن الانساني... اي، اذا كان موضوع الفكرة المشكلة لذهن الانسان هي جسم، فلاشيء يحدث في ذلك الجسم الذي لم يتم تصوره من جانب الذهن"(الجزء الثاني، مقترح 12).
هذه العقيدة في مطابقة الذهن-الجسم هي ملائمة لتفكير العلم المعاصر، وحيث هناك اعتراف متزايد بالكيفية التي يرتبط بها الادراك والتجسيد. ربما نقول ان جدال سبينوزا يتضمن ان التجسيد الكلي الذي يشكل الذهن الانساني للفرد هو مساوي للنشاط الكلي للنظام العصبي لذلك الفرد، وكل واحد يعمل بالتوازي مع الاخر. لذا فان ميتافيزيقا سبينوزا تبين الكيفية التي يرتبط بها الذهن مع النظام العصبي. هذا الاتجاه في مشكلة الذهن-الجسم هو ملفت ايضا لانه يقترح ان الذهن ليس خارجيا للطبيعة وانما جزء من كل متكامل. بالنسبة لسبينوزا، المظهر المزدوج للشيء (المطابقة) ينطبق على كل شيء في الطبيعة، ولذلك، فان كل شيء في الطبيعة له نوع من الذهن. الكائنات الانسانية لاتشغل مكانا ميتافيزيقيا خاصا ماعدا ان الجسم الانساني هو الشيء الاكثر تعقيدا في الطبيعة، ولذلك فان تجسيده او الذهن الانساني هو الذهن الاكثر تعقيدا في كل الطبيعة. او كما يذكر سبينوزا: "بمقدار ما ان جسما ما اكثر قدرة من الاخرين في عمل عدة اشياء في وقت واحد، كذلك بنفس المقدار ان ذهنه اكثر قدرة من الاخرين في تصور عدة اشياء في وقت واحد"(جزء 2، مقترح 13، scolium ). بكلمة اخرى، تعقيد الذهن الانساني يتطابق مع تعقيدية الجسم الانساني.
استنتاج
طبقا للدراسات المعاصرة حول نظريات سبينوزا التي اشرنا لها، فان مظهر الطبيعة اللانهائي الخالق لذاته يتضمن:
1- السلوك اللامقيد للجزيئات في ميكانيكا الكوانتم 2- كل وجود للعالم يدعم الذكاء 3- ظهور اشكال الحياة من خلال التطور
كل هذه الظواهر التي تبرز من جوهر واحد هي مترابطة: لا يوجد هناك ذكاء بدون تجسيد، ولا وجود لزيادة في تعقيدية التجسيد بدون التطور، ولاوجود للتطور بدون كون متفرد يسمح للحياة بالنشوء، واخيرا وكما تعلّمنا من ميكانيكا الكوانتم ومبدأ وجود الانسان، فلا وجود هناك لكون مادي ملاحظ دون وجود ذكاء فيه. وجود الكون والذكاء الذي ضمنه هما بالنهاية تعبير لجوهر واحد. خاصية التفكير والتمدد لا يمكن اختزالهما الى احدهما او الآخر ولكن كلاهما يشيران الى نفس الوجود الابدي اللامحدود. نفس القوة غير المقيدة المعبر عنها بتعقيدية جسم الانسان هي ايضا يُعبر عنها بقوى الذهن الانساني. القوة التي تقف خلف السلوك اللامقيد للجزيئات في ميكانيكا الكوانتم والمعبر عنها باتساع الكون، هي ايضا تعني التطور المستمر للمعرفة الانسانية. لايمكن ان يكون هناك اي شيء اكثر تأكيدا للحياة من هذا. هذا هو الذي يجعل سبينوزا اكثر ملائمة للفكر المعاصر.
اضف تعليق