يقال: "إن الصديق من يصدُقك لا أن يُصدّقك"، هذا القول الحكيم يفيد لعلاقات قائمة على قواعد اخلاقية بين افراد المجتمع بهدف التواصل والتواصي لما يفيد استمرار الحياة الطبيعية بشكل صحيح، وهو مفيد ايضاً للعلاقة الاكثر عمقاً وعلى المدى البعيد بين شريحة المثقفين وبين سائر شرائح المجتمع بما يحقق المنفعة لعامة الناس.
ولابد من الاشارة بدايةً؛ الى أن مصطلح "المثقف" المتداول عندنا، تشكل في بيئة اجتماعية وحضارية غربية تمخضت عن شريحة نعرفها بهذا المصطلح، بعد صراع مرير بين المنادين بتحكيم العقل وإطلاق الفكر من لدن فلاسفة ومفكرين في القرون الماضية، وبين المصرّين على الجمود الفكري والتقوقع في زاوية التعاليم الدينية متمثلة بالكنيسة الكاثوليكية، لذا فان كلمة "المثقف" في لغتنا تعادل ما في اللغة الاوربية؛ كلمات مثل: الفطنة او الذكاء او التعقّل والإدراك والاستنتاج، ثم أطلقت على الرجل الذي يُحسن التفكير، ثم أطلق على شريحة في المجتمع تتميز بقدراتها الذهنية.
هذا من الناحية اللغوية، أما اصطلاحاً، فان علم الاجتماع صنف طبقات المجتمع وفق نوع العمل الذي تقوم به كل طبقة او شريحة، فقسموا المجتمع بشكل عام الى مجموعتين: الاولى تقوم بأعمال عضلية، والثانية تقوم بأعمال ذهنية وعقلية، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان المشتغلين بأعمال عضلية يستعينون – في كثير من الاحيان- بقدراتهم الذهنية فهي التي تحدد مسار الخطأ والصواب في أعمالهم وتضمن لهم النجاح، فاذا كان حجم الاعتماد على القدرات العقلية أكثر، كما هو شأن الاكاديميين والادباء والسياسيين والفنانين وأمثالهم، فانهم يكونوا ضمن الشريحة المثقفة.
أما بالنسبة لنا فقد أضفنا "المفكّر" الى المعيار الذهني والعقلي لكلمة "المثقف" لنخرج باصطلاح جديد للمثقف بانه ذلك المفكّر والمنظر القادر على التأثير على افكار الآخرين وأمزجتهم وسلوكهم وحتى طريقة حياتهم، فنسمع المناداة بأفكار وقيم انسانية مثل الحرية والعدالة والتعديية والاعتدال، ربما اقتداءً بالمفكرين الغربيين الذين تركوا بصمات واضحة في حياة المجتمعات الغربية، ولكن؛ لنا أن نتسائل عن فرص النجاح لمن يحمل صفة "المثقف" في التأثير والتغيير في واقعه، وهل ياترى قرأ مثقفونا سيرة حياة أولئك المفكرون والمنظرون على مر الاجيال في الغرب، الذي صنعوا لشعوبهم الثقافة والوعي؟
فمن يتحدث عن الحرية ونبذ الاستبداد، هل طبق شيئاً منها في حياته الخاصة وفي علاقاتها الاجتماعية؟ وهل يفسح المجال للآخر بالانتقاد والتقويم لما يصدر له من نتاجات فكرية او بحثية؟ او من يتحدث عن التعددية؛ هل بامكانه استيعاب التنوع الموجود في مجتمعه، حتى وإن تبرّم من بعض العادات والتقاليد؟ وهكذا سائر الافكار والنظريات التي يحتاج الناس الى تطبيقات عملية في واقعهم لتكون حيّة نابضة يعيشونها ويلمسون بكل حواسهم قدرتها على تغيير واقعهم المرير.
ولإيجاد الصداقة الحقيقية بين المثقف والجماهير، ذهب بعض المفكرين الى بلورة المفهوم والمصطلح ليكون المثقف هو ذلك المتميّز ليس فقط بنشاطه العقلي وذكائه وفطنته وصفاته الذهنية الذاتية، وإنما بقدرته على تحمل المسؤولية إزاء ما يجري حوله من اختلالات او ازمات في المحيط الاجتماعي أو على الصعيد الاقتصادي او السياسي، وحسناً قال المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي ذات مرة: "من يقول لك أنك غير مسؤول لابد وضع علامة السؤال حوله"، لذا نجد أن النتاج الثقافي المؤثر والمفيد هو ذاك الذي يحمل في طياته التفكير بالآخرين، والحثّ على الاستشعار بآلام الناس ثم سد حاجاتهم المعنوية من إيمان وأخلاق فضلاً عن حاجاتهم المادية.
وهنالك اعتقاد لدى البعض بان إبقاء الناس على ما هم عليه من حالة اللامبالاة واللامسؤولية إزاء الآخرين والواقع الخارجي، او ما يعبر عنه البعض بـ "عش حياتك"، من شأنها بعث الارتياح في النفوس والتخفيف من الهموم المحيطة بالناس، في حين تكريس هذا النوع من التفكير هو الذي يحرمهم من بلورة الرؤية الصحيحة إزاء مفاهيم وقيم يتعاملون بها، فيختلط عليهم الحق بالباطل، فيجدون الصدق والامانة والعدالة في غير محلها، وفي لحظة انكشاف الحقيقة تكون الصدمة والارتداد العنيف واليأس والاحباط من كل شيء.
ان إخراج صفة المثقف من الشريحة الضيقة للمشتغلين بالميدان العقلي، وإفساح المجال لمن يجد في نفسه القابلية على توسيع آفاق تفكيره بما يجري حوله، من شأنه ان يعزز العلاقة بين المثقف وبين عامة المجتمع، لتكون علاقة صداقة حقيقية قائمة على حسن نوايا وثقة متبادلة بشكل عال.
ومن أبرز الداعين الى هكذا نوع من العلاقة؛ سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في عديد مؤلفاته وايضاً احاديثه بضرورة توخي المثقفين الحذر من مغبة التعالي على الناس والتفاخر بما لديهم من مستوى علمي او ثقافي، والايحاء الى الناس بأنهم اصحاب فضل عليهم، ولديهم ما يعجز الآخرون عنه.
هذه العلاقة الصادقة ضالة المجتمعات الاسلامية في صراعها المرير مع الحرمان والتخلف، لاسيما المجتمع العراقي، فأين ما تذهب، تسمع مقولة "فقدان الوعي والثقافة"، لاسيما من ألسن اشخاص من "الشريحة المثقفة"، وهي تعزو استمرار المشاكل الى وجود هذه الازمة في كيان المجتمع والامة، متناسين علّة وجود هذه الازمة ومنشأها وما اذا كان بالامكان تداركها والتخلص منها نهائياً للتفكير للمرحلة الاخرى من نشر الوعي والبناء الثقافي ومواجهة التحديات الخارجية في خندق الفكر والثقافة.
اضف تعليق